قضايا وآراء

اضبطوا بوصلتكم نحو الأقصى

1300x600
حزمنا متاعنا نريد إجازة، التفت إليّ وقال: هل بَقِي شيء؟ قلت له: نعم!، بقي أن تطرح الكآبة التي لا تفارقك، ألم تسمع قول الرافعي: "لا تتم فائدة الانتقال من بلد لآخر إلا إذا انتقلت النفس من شعور إلى شعور فإذا سافر معك الهم فأنت مقيم لا تبرح".

على شاطئ البحر ذات صباح عليل، أخذت أتأملُ الموجَ في عاداته، مدّه وجزرِه، هو البحر الذي كان طريقا يبسا ينتقل كليم الله موسى والآلاف معه إلى الضفة الأخرى، ذاته البحر الذي اغرق فرعون وجنوده!.

كثيرا ما أعجب كيف أن هذا البحر يحمل الفلكَ على ظهره، ويَحيى كثيرٌ من الكائنات في جوفه، ولكنه يضيق بحملِ طفل صغير استودعه والداه البحر، ولكنه قانون الأشياء والعادات، ومن لم يعرف قانون العادات كان مصيره الغرق!.

السكين تقطع الطعام وبها يُقتل الإنسان، كذلك العادات عندما تورد صاحبها جنة أو نار، عندما ترفَعه أو تحطّه، وما التزكية والتدسية إلا مجموعة عادات تسلك إحدى طريقين، خير أو شر!.

كثيرا ما أفكر في اللحظة التي أعيشها حتى لا أصبح فريسة للعادة، أحاول أن أفتح حدقتي العين على اتساعهما لعلي أرى عوالم أخرى، أشعر أن الاستغراق ينقلني إلى عوالم أخرى لم أكن لأعيشها لولا انتقالي بعالم الأفكار والشعور والعاطفة.

ما يميز الأذكياء عاطفيا هو أنهم يحاربون العادة، فتراهم بين الحين والآخر يرفلون بثوب عادة جديدة، ويطرحون أخرى، بهذه البساطة نعم!، فقوة الإرادة والإصرار هي من صفاتهم.

أثبتت الدراسات أن الإنسان يمكن أن يكتسب عادة إذا مارسها لشهرين متتابعين، أما رأيت كيفَ أنّ قطرة الماء تحفُر في الجبل أخدودا؟!.

يُحيط الإنسان نفسَه بمجموعة من المبادئ والأفكار التي تتحول إلى عادات ثم سلوك نابع من هذه الأفكار، فالإنسان مجموعة من الاتجاهات، هذه الاتجاهات كما يقول علماء النفس تتكون من معارف، ووجدان وسلوك.

يقول علماء النفس عن العادات: بأنها الأعمال التي نقوم بها دون تفكير وبتلقائية، حيث يعيش الإنسان في كهف العادات والمسلمات التي نصنعها صغارا ولكنها تصنعنا كبارا، الأمر الذي يصل بنا إلى طُرق مسدودة في تحصيل معارف جديدة تتصادم مع ما نعرف.

التواصل هو من أهم الطرق لتحصيل معارف جديدة، نفشل في التواصل لأننا دائما نحاول تصحيح الأمور دون التأكد من أننا نرى الأشياء بشكل صحيح.

كثيرُ من الناس رأوا سقوط التفاحة لكنه وحده نيوتن سأل لماذا!، وكثير من الناس كان يغطس في الماء ولكن وحده أرخميدس جاء بقانون الطفو.

ولما كانت العادات تتحكم بإرادة الإنسان التي جعلها الله الفيصل للتمييز بين الخير والشر، ولما كان الكون قائمٌ على التغير والتبدّل، كانت العادات لمرحلة معينة تعوق حركة الإنسان وتحجبه عن الهدى بدليل قوله تعالى: (قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون). فالله يطرق تفكيرهم بأن يتفكروا بالمنهج بعقولهم لا بما وجدوا عليه آباءهم، فإذا كان المنهج يتوافق مع الفطرة فالمنطق اتباعه وطرح عادات حجَبت عقولهم عن التفكير.

ولكي نفهم كيف أن حلقات العادة تسجِن الإنسان في عالم من السلوك والأفكار، فقد قام معهد ماساشوستس بإجراء تجارب عام 2006 على الفئران بوضع حساسات داخل جمجمة الفئران، ثم وضع الفأر في متاهة على شكل حرف "ت" اسطوانية بالإنجليزية، وفي آخر المتاهة على اليمين يتم وضع قطعة شوكولا، حيث لوحظ أن الفار يبدأ -عند شم الرائحة- بنشاط دائب حتى الوصول، وعند تكرار العملية لوحظ تناقص النشاط لسلوك الفار في طريقه نحو المتاهة، حيث أنه أصبح يصلها دون تفكير، ليصل العلماء إلى حقيقة مفادها: أن اتخاذ القرار أصبح عن طريق العادات التي تتم دون تفكير مسبق، وفي حال تغيير مكان الشوكولا كان النشاط يتضاعف بشكل متخبط لاتباع خطة قديمة لا توصل للهدف المنشود.

يقول وليم جيمس عالم النفس المشهور إن قراراتنا 40% منها تؤخذ عن طريق العادات.

الجميع ينشأ على عادات، وهي ضرورية لإنجاز المهام في وقت وجهد أقل، فالعادات الفردية كنظام التعليمات والسياسات والإجراءات في المؤسسات، ولولا هذه الإرشادات لحدثت إشكاليات معقدة، فالروتين هو جزء من العمل، إلا أن الإنسان يجب عمل مراجعات مستمرة وإحداث تغذية راجعة لإجراء حركات التصحيح المطلوبة.

يقودني ما تقدم إلى موضوع ترتيب الأولويات، فالإنسان مبرمج بشكل أو بآخر على مجموعة من الأولويات، عند شروق كل صباح يقوم الإنسان الناجح بمجموعه من الأعمال تختلف كلّياً عن الإنسان الفاشل، وقائمة أولويات هذا تختلف عن ذاك.

إذا كان الإنسان كما تقدم يستطيع ممارسة عادة جديدة وطرح أخرى بممارستها أو تركها في شهرين متتابعين، بقي أن نسال ذلك الإنسان الذي يحمل بين جنبيه كمسلم همّ نهضة أمته ومجتمعه، أين يقع هم تحرير الأقصى في سلم أولوياته ؟!.

في كتاب قوة العادة يذكر المؤلف أن العادة تنشأ بوجود الدليل، والحافز، والأمر الروتيني، والمكأفاة، وذكر مجموعة من الأبحاث الطبية والاستثمارية لعلماء ومدراء تنفيذين قاموا بإحداث تغييرات جذرية بفهمهم كيف يمكن التأثير على السلوك للمرضى والزبائن عن طريق فهم حلقة العادة.

إن أي شخص يستطيع أن يخلُق عادات لنفسه، كما أن كل أمّة تستطيع أن تخلق عادات لشعوبها، فإذا كنت تريد أن تساهم في تحرير الأقصى بعيدا عن الشعارات، أقرأ كثيرا عن الأقصى، ضع صور للأقصى على كل حائط، اتل سورة الإسراء يوميا، اخلق الرغبة لديك يوميا، ألّف، اشرح قضية القدس والأقصى لكل قريب وبعيد، المكافأة أن ترى أنك تساهم بالفعل عن طريق الدعاء اليومي، والنفقة والإعداد، بالإضافة إلى شعورك بالانجاز لغاية جليلة.

فإن الرغبة تعزز حلقة العادة.. تذكّر

عندما ترى المرابطين والمرابطات يأتون من كل فج عميق، وترى الصهاينة يغتاظون من هذا الكم وهذه الهمة وهذا الشغف، عندما تشعر أن المال الذي أنفقته يسير الحافلات، ويقيم مصاطب العلم، عندما ترى نفقتك هي الزيت الذي يسرج في قناديل الأقصى، عندها تشعر بأن المكأفاة الدنيوية قد شرعت بالتحقّق، والله يوعدنا بمكأفاة أكبر بالذود عن مقدساته، وما عند الله خير وأبقى!..

لا يمكن تغيير العادات بوجود محفّزات وأمور روتينية بديلة ومكافآت، حيث يمكن أن ينتكس الإنسان إذا طرأ عليه أمرٌ ما، أذا شعر بالعجز، أو شعر بأنّ ما يُقدّم لا يمكن تغيير شيء، فعلاج ذلك هو الإيمان والاعتقاد بأن التغيير أمرٌ ممكن، والاعتقاد بأننا قادرون على التغيير دون تشكيك، وأن تتقدم خطوة أفضل من البقاء مكانك، وأن البقاء مكانك أفضل من التراجع للخلف.

وما هذه الهجمة الإعلامية التي تشعرنا بالعجز وأننا أضعف من أن نغير إلا حلقة في مسلسل التيئيس!.
يزداد الاعتقاد قوة بالقدرة على التغيير عندما يوجد هناك مجموعة مسانده، يقول الله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، اجعل نفسك فردا في مجموعة أو كن أنت قائدا لتلك المجموعة، المجموعة تؤازر بعضها لتحقيق الغايات، وإذا تراجع الفرد فمن المستحيل تراجع الجميع، عندها فقط نكون وضعنا أرجلنا على أول السلم.

هناك عادات تسمى عادات محورية إذا تم تغييرها فستقوم بتغيير كثير من العادات مرتبطة بها، ويذكر صاحب كتاب "قوة العادة" إن "أونيل" الرئيس التنفيذي لشركة الكوا، وهي شركة المنيوم من أضخم شركات العالم، عند تنصيبه مديرا تنفيذيا كانت الشركة تعاني من مشاكل الجودة والإنتاجية، وكان أول خطاب ألقاه ذكر فيه أنه سيعمل على جعل الإصابات تصل إلى درجة صفر، لم يتكلم عن الأرباح أو الضرائب أو ما شابه!.

وبالفعل تضاعفت الأرباح عما كانت عليه، بسبب تغيير نسب الأمان التي كانت في الأصل تؤثر على الأرباح والإنتاجية والجودة، فللوصول إلى الجودة فإن أقصر طريق هو السلامة، وللحصول على السلامة لا بد من اتقان العمل والالتزام بالإجراءات والسياسات وبالتالي فإن العادة المحورية غيرت كل شيء.
 
كذلك فإن تغيير عاداتنا، وربط حياتنا بالأقصى لأنه هو المحور، ذلك المحور الذي كان فيه هزيمتنا والتي أثرت على ضعفنا في جميع الميادين، والأقصى هو البوصلة، والتاريخ يعزز فكرة إذا كان الأقصى محررا كانت الأمة في قمة نهضتها والعكس صحيح.

إن قوة الإرادة والإصرار يعتريها الضعف والفتور لأن الهدف طويل وشاق ولا بد من التدريب والصبر. فإذا كانت الغايات عظيمة استسهل الإنسان الصعب في سبيلها.

لاستسهلن الصعب أو أدرك المنى ##   فما انقادت الآمال إلا لصابر.

إن معركة إسرائيل مع العالم العربي تكمن في تفتيت هذه الإرادة عن طريق إرسال رسائل من خلال الإعلام مفادها أنك كفرد وأنكم كأمّة عاجز/ عاجزة، وأن التفوق هو للعدو، والفجوة أكبر من أن تُردم، فلا تكلفوا أنفسكم عناء المحاولة لأنه محكوم عليها بالفشل!!!.

إن وجود الألم والأزمات أفضل طريق لنسف العادات، وأن استشعار مقولة "أن نكون أو لا نكون" هي الطريق، فإذا لم نستشعر أن الاحتلال وتهويد القدس وتقسيم المسجد الأقصى مكانيا وزمانيا، وسرقة الأرض بحاجة إلى تغييرنا فنحن موتى، ولا أظن أننا كذلك!!.
 
لا بد من التأثير على عادات الهزيمة النفسية عن طريق تغيير الفكر والتأثير على العاطفة -وما أقواها لدى الجيل العربي المسلم ليتغير السلوك، فتنتفض الأمة فتحارب أعداءها بكتاب يهدي وسيف ينصر.
اضبط البوصلة واعلم أن أشرف الغايات لا تُنال إلا بالصبر والعزيمة فاجعل الأقصى على سلم أولوياتك.

* كتَبَ الأقصى وفي رِجليه قيدُ
وعلى أبوابِهِ – من بقايا عُبَّدِ الطّاغوتِ – جندُ:
طالَ شوقي لصليلِ السّيفِ يشدو
وصهيلِ الخيلِ وَسْطَ النّقْعِ تعدو
هل صلاحُ الدّين – يوما – في رجالِ القومِ يبدو؟
هل ستأتي في نساء القومِ خنساءٌ وهندُ ؟
أم تُراها عقِمَتْ أرحامُها اليومَ فلنْ يولدَ سعدُ ؟!
ضاعتِ الأوطانُ هدرًا
عندما القومُ أضاعوا: “وأعدوا”


* شعر : عبد الغني التميمي/رسالة من المسجد الاقصى