كتب زاهي وهبي: بات ممجوجا ومستهلكا تكرار قول المتنبي «
عيد بأية حال عدت يا عيد». منذ عقود ونحن نعيد القول ونزيد عليه ما يفوق حسرة الشاعر وأساه أضعافا مضاعفة. لا شيء يبعث على العزاء سوى أن ما من أمة إلا مرت بسنوات عجاف، لكنها في نهاية المطاف عرفت كيف تهتدي إلى دروب النجاة. صحيح أن سنواتنا العجاف طالت واستطالت حتى أمست عقودا مظلمة بفعل أسباب صارت معروفة للقاصي والداني، وبات تكرارها أيضا لزوم ما لا يلزم، لكن الرهان معقود الآن على كوننا بلغنا القاع؛ إذ من الصعب تصور درك أسفل من الذي تمر به بلادنا، وعسانا لا نكون واهمين، فنشهد ولو بعد حين بدايات خروج من النفق المسطوم.
اليوم عيد، وفي العيد، أيا كانت الظروف، تصفو النفوس وتستلهم بعضا من مفاهيم العيد ودلالاته. اليوم ثاني أيام الأضحى الذي تعلو فيه فكرة التضحية موروثة من سنن الأنبياء، وما تركوه من مناهج لمريديهم وأتباعهم، ولا يمكن لامرئ في مثل هذه المناسبة غضَّ الطرف عن التضحيات الجسام التي بذلها الناس، ولا يزالون في هذه البقعة من العالم لأجل العيش الكريم والحياة الحرة، ولا عن ملايين الضحايا قتلى وجرحى ونازحين وفارين من جحيم القتل والذبح والموت والخراب، حتى يُظَنُّ أن الأرض ضاقت ببنيها، والدنيا باتت جحيما لا مفر منه ولا مناص، فهل يستقيم عيد والنَّاس على وجوههم في رياح الأرض الأربع، والمقابر لم تعد تتسع لمزيد؟
الأضحى يحضّنا على التضحية، وفي التضحية نوع من السمو والارتقاء إلى رتبة متى بلغها الكائن البشري، لا يعود معها يبخل بشيء في سبيل إيمانه ومعتقداته، وفيها أيضا فكرة التضامن والتكافل بين الناس والإحساس بالفقراء والأقل حظا من خلال توزيع الأضاحي، وهنا نفهم أن الأضحية ليست مجانية بل غايتها الإنسان، والتقرب عبرها إلى الله لا بالفعل ذاته بل بالغاية الناجمة عنه، وهي مد يد العون للمساكين والفقراء. وكم هي بلادنا مسكينة وفقيرة إلى الأمن والأمان والاستقرار والرخاء والمساواة والحريّة والعدالة الاجتماعية والتنمية على أنواعها، وكم هي أولى بالتضحية من أجلها ومن أجل إنسانها. الأضحى هو تضحية لأجل الإنسان لا بالإنسان، والفارق هائل بين الأضحية والضحايا، وإلا لما كان الله فدى إسماعيل بكبش عظيم!
تحتاج بلادنا كثيرا من
التسامح والخفر والتواضع، وكلها على تماس مباشر مع فكرة التضحية. الوطن كيان وكائن في آن واحد، وهو يحتاج أن نضحي لأجله لا بالأنفس فقط، بل أولا بالعصبيات والغرائز والهويات القاتلة والأنوات المتورمة التي تقود إلى الانتحار الجماعي متى أصابت ناسه، وخصوصا الحاكم وولي الأمر، ومثلما يلزمنا في علاقاتنا اليومية أن نتواضع ونتسامح ونسمو على كثير من الصغائر كي تستقيم إنسانيتنا، فإن هذه السمات والصفات المتجسدة أفعالا تغدو أكثر إلحاحا لجهة علاقاتنا الجَماعيّة؛ لكي نتجنب المزيد من التفتت والتشظيات والانهيارات المتتابعة. نعم، التضحية الأَولى بِنَا ممارستها، هي التضحية بالعصبيات والغرائز وهي مهمة غير سهلة لكنها ليست مستحيلة، صعبة لأنها تحتاج ترويضا للنفس وتمرينا يوميا على عدم الانزلاق إلى هاوياتها المهلكة.
في العيد يلزمنا أن نسمو بأفكارنا ومشاعرنا فلا ننجرف في موجات الغضب والانفعال، ولا تأخذنا أنا الفرد أو أنا الجماعة إلى حيث لا تُحمد عقباه، وهذه كما أسلفنا مهمة شاقة لكنها ضرورية تماما كسترة نجاة، إذ لن يُكتَب خلاص لبلادنا ما لم نحبها ونقدمها على ما عداها من ولاءات، الحُبّ مفتاح الأبواب الموصدة وقارب الخلاص في كل بحر أو محيط، وما الأرض بلا عشاقها، وما الطريق بلا رفقة الطريق، وما العيد بلا حُبّ ومحبين؟
(عن الحياة اللندنية)