كتاب عربي 21

نُخب إيران ... و"كلاب الحراسة" الجُدد

1300x600
عندما كتب الفيلسوف والروائي الفرنسي "بول نيزان" كتابه الأشهر " كلاب الحراسة " سنة 1932 ما كان يتصور أن يكون له الأثر والنجاح الذي حققه بعد موته خاصة خلال انفجار الحركات الطلابية بفرنسا 1968 إبان أوج الفكر الشيوعي في أوروبا. كتاب المفكر الثائر ينطبق كثيرا على الواقع العربي اليوم حيث تتكفل النُخب الانتهازية - التي عمل نيزان على فضحها - بتبرير الاستبداد وتشريع سيطرة المال وسطوة المصالح لطبقة بعينها أو جماعة باسمها أو طائفة بلونها.

في دول عربية يمكن وصفها بـ"إسطبلات الاستبداد"، حيث تُداس كرامة الإنسان ويُهان الفرد فقرا وجوعا واحتقارا ورميا بالبراميل المتفجرة تَخرج علينا نُخب إيرانية الهوى ناطقة بالعربية لتعلن في صلف المُستطيع بِغيره أو "كالهرّ يحكي انتفاخا صولة الأسد" أنّ "النموذج الإيراني هو أفضل النماذج للمنطقة العربية" وأن "العمق الثقافي الإيراني عمق لا يملكه العرب" وغيرها من صور التزلف لمشروع التوسع الصفوي على الأرض العربية.

 بالأمس خرج علينا كاتب بيان "الانقلاب المصري" وصاحب السيجار الكوبي الفاخر والقاصّ المصري الأشهر لسهراته البائسة ونكته التعيسة مع الملوك والسلاطين ليعبّر عن إكباره لنظام ولاية الفقيه وانبهاره بالمُنجر الإيراني في المنطقة. أما في تونس فقد كشف ربيع الخضراء المختطف جحافلَ الأفّاقين من أنصاف المثقفين ومن " جامعيّ نوفمبر" خاصة من أنصار زعيم الممانعة والمقاومة وقاتل أطفال شعبه في بلاد الشام.

هؤلاء " الحداثيون " المسبّحون بحكم الملالي وبحمد أساطير السراديب وترانيم لعْن صحابة المصطفى ـ عليه أزكى السلام ـ وزوجه على المنابر لا يرون حرجا في الاصطفاف وراء واحدة من أكثر الأنظمة السياسية والمذهبية كرها للعرب وإجراما في حقهم.

القومجيون منهم يتعايش في فكرهم العليل إكبار الرئيس العراقي شهيد الحقد الفارسي من ناحية والتسبيح بحمد قاتله يوم العيد من ناحية أخرى، هم يتباكون على الجيش العربي السوري وهو يذبح النساء والأطفال ويفتح سماءه لطائرات صهيون وأرضه لفرق الموت الصفوية من أجل إنقاذ عميلهم على أرض العرب.

قراءة تفكير الطابور الخامس الإيراني على الأرض العربية تكشف عن وجود صنفين من النخب الحارسة لنفوذ الصفويين في المنطقة:

 أولها نُخب تبيع خدماتها لمن يدفع أكثر وهي تؤجر أقلامها بحسب الطلب خاصة وأن الإيرانيين يدفعون بسخاء كبير عبر سفراء دول أمريكا اللاتينية ـ في تونس مثلا ـ وهي أموال مصدرها في غالب الأحيان مشبوه كتجارة المخدرات وتجارة الأعضاء حيث يتم غسل الأموال عبر إعادة التوزيع.

وهذا الصنف لا يمثل خطرا كبيرا لأنه يغيّر بندقيته بحسب الطلب وهو لا يختلف عن شركات الحراسة الخاصة مثل منظمة "المياه القاتمة" (بلاك وتر) سيئة الذكر. لكنّ جرائمه في حق الوعي العربي تتجاوز جرائم شركة الموت الأمريكية هذه لأنها جرائم تخلّف غبارا سامّا من ذرات التزييف تشوّه المواليد وتسبب أكثر الأمراض فتكا بخلايا الفكر مثلما تفعل بقايا اليورانيوم الأمريكي اليوم في الفلوجة وفي كل أرض العراق.

الثانية هي نخب تعيش حالة من تغوّل الشعور بالهزيمة، فالوعي العربي المعاصر مسكون بالهزائم ومُدمى بالانكسارات المتتالية بدءا بسقوط بغداد الأول وصولا إلى سقوطها الأخير على يد المغول الجدد من رعاة البقر وبائعي "المالربورو".

هذا الإحساس الذي استبطنه اللاوعي العربي بقوة تجلى في البحث المفرط  والمحموم عن التعويض وعن التنفيس من أجل تحقيق توازن الأنا لكنه بحْث بقيَ مشروطا بالبقاء في حدود الهوية اللغوية أو العقائدية على الأقل، وهو ما نجح "ملالي طهران" في فرضه على النُخب العربية المنكسرة أو نُخب الردّة  نُخب "كامب ديفيد" ونخب 1948 ونخب 1967 ونخب 2003 ونخب صبرا وشتيلا.

"نَحن سننتصر لكم" و "نحن سنحرر القدس بدلا عنكم" و"نحن سنقاتل الشيطان الأكبر عوضا عنكم"، نحن "سندوس صهيون نيابة عنكم بقنابلنا النووية وبمِخلبنا في لبنان". هكذا حدّث ملالي طهران طوال نصف قرن وقد نجحوا في الاستحواذ على الشعار الإسلامي فوسموا ثورتهم به حتى لا يكون لغيرِها، واخترقوا أعماقا كثيرة من نُخب العرب بحجة المقاومة والممانعة.

اليوم يتعانق الشيطانان وتحلق طائرات صهيون إلى جانب صواريخ "بوتين" الممانع هو أيضا لتقصف حلم الحرية لدى الإنسان السوري. اليوم أيضا تغيب فلسطين عن خطاب رئيس دولة الملالي بالأمم المتحدة واليوم تستأسد "إسرائيل" من أجل بقاء مخلب طهران في سوريا واليوم أيضا تفتخر طهران باحتلال أربع عواصم عربية وتنشد طربا بأن بغداد الرشيد عاصمة الإمبراطورية الفارسية الأبدية وبأن طريق القدس يمرّ عبر "الزبداني".

الفريد والأصيل في مواقف العرب أنهم لم يُعادوا إيران أبدا بل كنّا نرتجف خوفا بعد سقوط صدام حسين من أن تغزو الجيوش الأمريكية طهران وكنا، كالبُلهاء، نرتعد هلعا من أن تطال طائرات صهيون مفاعل "بوشهر" النووي لأننا أصبحنا نحس باليُتم بعد موت "الزعيم" ولم نكن ندري أن قنابلنا النووية إنما تكمن في إرادة الحياة وفي الإيمان بالإنسان وفي قتل فكرة الزعيم، لأن إرادة الحياة من إرادة الله وإرادة الله لا يمكن أن تخيب. 

لم نكن ندري أن "فيلق القدس" لم يُصنع ليحرّر القدس بل ليذبح السوريين واليمنيين والعراقيين شيبا وشبابا نساء وأطفال لأنهم طالبوا بالحرية وبسيادة الإنسان على أرضه.

 لم نكن نعلم أن القنابل الإيرانية إنما جعلت لقتل العرب وأن المشروع النووي الإيراني موجّه ضد العرب أساسا وليس التشيع إلا ثوبا شفافا لا يكاد يُخفي عورة المشروع الصفوي وعينُه على بلاد الحرمين ومرقد الرسول الأكرم لتكتمل خيوط المؤامرة ويتحقق مشروع "أم القرى". 

لم نُصدم ولن نُصدم أبدا في شيء مثلما صُدمنا في تهافت النخب العربية وفي طبعها المتكالب وتلونها الرمادي المريب، بعد الانفجار الكبير الذي صنعته أرياف العمق التونسي الفقير يوم 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010.

نُخبنا العربية ليست نخب الاستبداد التي طوّعها النظام الرسمي العربي لخدمة أهدافه ولمسح الدم العالق على حذاء عسكره، بل نقصد تلك التي أوهمتنا طيلة عقود بأنها عنوان المعارضة ورافعة راية المقاومة والتقدمية والوحدة وحقوق الإنسان وغيرها من الأكاذيب التي لم يعد يصدقها حتى المقاومون أنفسهم.

فما إن هبّت أولى نسائم ربيع العرب منحدرة من سفوح جبال "القصرين" التونسية الأبية ومعتّــقة بروح "بوزيد" الصامدة لتبلغ "درعا" وما بعد "درعا" حتى تدحرجت كل الأقنعة وتبخرت كل المساحيق، ولم يبق من قناع يُخفي دهون الزيف وأصباغ التلون إلا نزْرا يسيرا من الممانعة سقط البارحة مع تحليق الطائرات الروسية والصهيونية جنبا إلى جنب على أرض الممانعة لقصف المعارضة السورية وإسقاط أربعين شهيدا من الأطفال والنساء، في حين تربض "داعش" آمنة وهي على مرمى حجر من نيران الرفيق الممانع وتحت عيون أقمار "العم سام" الذي لا ينام.