تسمى هذه المؤسسة باللغة الماليزية (Tabung Haji)، والتي تعني حرفيا مدخرات الحج، أو مخزونات الحج، أو خزينته. وربما من الأنسب تسميتها بـــ "صندوق ادخار الحج" من باب الترجمة العربية الصحيحة.
تقول الدراسات إن إنشاء أول مكتب يُعنى بشؤون الحجاج الماليزيين كان في عام 1951م، تحت اسم "مكتب شؤون الحجاج"، ولم تكن وظيفته في تلك الفترة تتعدى تسهيل سفر الحجاج، وتنظيم حصولهم على التصاريح اللازمة لأداء مناسك الحج والعمرة. وكان الفضل في إنشاء صندوق ادخاري خاص بالحجاج يعود إلى أستاذ الاقتصاد في جامعة المالايا، البروفيسور أونكو عبد العزيز بن أونكو عبد الحميد.
كان التفكير وعزم النية على أداء فريضة الحج للمواطن الماليزي هماً مؤرقاً ومطلباً صعب المنال.
فالتكاليف الباهظة التي يفرضها بعد المسافة، ومخاطر الترحال، جعلت هذا المنسك بمثابة الحلم الشبيه بالخيال للمزارع، والعامل الماليزي البسيط الميسور الحال. وعلى الرغم من ذلك فقد جرت العادة القديمة هنا، على أن يبدأ من ينوي أداء فريضة الحج بتوفير التكاليف، وادخارها، على مدار سنوات طويلة قبل التمكن من الأداء. وعادة ما يتم حفظ هذه المدخرات في زوايا البيوت وداخل قطع الأثاث، أو تحت الفرش والأسرة، أو في حفر يتم حفرها في ساحات البيوت والمزارع، ويتم ردم هذه المبالغ فيها حتى تكتمل ويحين موعد استخدامها. وأحيانا يتم شراء قطع أراض، أو عقارات، على أمل أن يرتفع ثمنها بعد فترة من الزمن، فيتم بيعها وتغطية تكاليف الحج بثمنها.
ولقد قدم البروفيسور أونكو عبد العزيز دراسة في عام 1950 أحصى فيها هذه العادات المتوارثة وذكر أسبابها ومخاطرها. فأوضح أن ما دفع الحاج الماليزي إلى اتباع أساليب الادخار هذه، هو حرصه على أن تكون تكاليف حجه مغطاة بمال حلال صرف، لا تشوبه شائبة ربوية، ولا تلتصق به شبهة شرعية. وبما أنه لم يكن ثمة بديل عن المصارف التقليدية الربوية في ذلك الوقت؛ فلا سبيل أمام هذا الحاج سوى اتباع وسائل الحفظ التقليدية هذه. أما عن المخاطر؛ فعدى عن الأضرار الفردية المتمثلة في احتمالية تعرض هذه المدخرات إلى السرقة أو التلف، فثمة أضرار اقتصادية مجتمعية تنتج عن تجميد هذه الأموال، وتغييبها عن الأسواق. هذا بالإضافة إلى خطر ثالث ثبت تعرض أغلب الحجاج الماليزيين في ذلك الزمان له، وهو عودتهم إلى ديارهم بعد أن استنفذوا جميع مدخراتهم وانقطعت سبل الرزق أمامهم.
لذلك تقدم البروفيسور بمقترح إنشاء صندوقٍ ادخاري، يعتمد مبدأ المشاركة وتقاسم الأرباح والخسائر حسب ما يقتضيه الشرع في المعاملات المالية. زاد من شعبية هذا المقترح ومن تلقيه بالقبول أمران: أولهما، رضا شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت –رحمه الله- وثناؤه عليه، أثناء زيارة قام بها لماليزيا. فكان لرأي الشيخ شلتوت عظيم الأثر وذلك لما للأزهر وعلمائه من مكانة واحترام وثقة في نفوس الماليزيين. أما الأمر الثاني، فهو ما سيحققه هذا المقترح من تلبية لرغبات الحجاج، فهو يسهل أمر سفرهم، ويقلل تكاليفه، وييسر دفعها، وكذلك يقصّر من المدة التي على الحاج انتظارها حتى يحين موعد أدائه لمناسك الحج.
وبعد موافقة الشيخ شلتوت على مقترح البروفيسور أونكو عبد العزيز، وافقت الحكومة على إنشاء هذا الصندوق في عام 1962م، وفي عام 1969م تم دمجه بمكتب شؤون الحجاج ليكون بذلك الجهة الوحيدة والرسمية التي توفر خدمات الحجاج والمعتمرين، وتسهل أمورهم. ومنذ ذلك الحين، بدأت هذه المؤسسة عملها، وباشرت تقديم خدمات متعددة ومختلفة للحجاج والمعتمرين، وتخطت بذلك ما كان عليه حال مكتب شؤون الحجاج.
الحديث عن الخدمات التي يقدمها اليوم "صندوق ادخار الحج" يذكرني بموقف كان السبب في معرفتي به، أو سماعي باسمه لأول مرة. حدث ذلك عندما لفت انتباهي مجسّم غريب يحاكي الكعبة المشرفة، رأيته منصوباً في ساحات الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا. ولاحظت وجود رجال ونساء لبسوا ملابس الإحرام فوق ملابسهم، وأخذوا بالطواف حول هذا المجسم مهللين ومكبرين. ومما زاد من حيرتي وقتها تقبل المارة لهذا المنظر، فرأيت مرورهم بجوارهم دون أي اعتراض أو إظهار أي تعجب كالذي أصابني.
بفضل الله، وقتها لم تقدني حداثة عهدي بمجتمعاتنا العربية سريعة الانفعال، إلى التسرع وتحطيم وتكسير ذلك المجسم من باب تغيير المنكر باليد، بل ساقني الفضول إلى سؤال أحد الأصدقاء الذين سبقوني بالقدوم إلى هذه البلاد، فأخبرني بأن هؤلاء متدربون ينوون التوجه لأداء مناسك الحج، وأن مؤسسة "صندوق ادخار الحج" الماليزية هي من يشرف على هذا التدريب.
كان ذلك أمرا غريبا للوهلة الأولى، فلم أكن قد سمعت –حسب اطلاعي- من قبل عن خضوع الحجاج إلى برامج تدريبية، يمرون خلالها على مجسمات لمناسك الحج، ويؤدون أمامها الشعائر. وأول سؤال خطر ببالي وقتها: ترى لو كانت فكرة هذه المجسمات وهذه المحاكاة في دولة عربية، فهل سنجد من يحرمها ويحكم ببدعيتها وشركيتها؟!.
مع مرور الأيام، وبالبحث اتضح لي أن هذا ما هو إلا جزء بسيط من الخدمات التي تقدمها هذه المؤسسة للحجاج الماليزيين. واكتشفت كذلك، أنها صاحبة الفضل في تصنيف الحجاج الماليزيين على أنهم الأكثر انضباطا، ووعياً بالأركان والمناسك، مقارنة ببقية الحجاج من جنسيات ودول أخرى.
فمن ناحية التدريب، توفر هذه المؤسسة أربعة برامج تدريبية خاصة بالحج والعمرة. أولها يكون قبل حوالي ثمانية أشهر من موعد أداء فريضة الحج، ويستمر لمدة سبع عشرة حصة تدريبية. وهو برنامج عام، الالتحاق به متاح لكل من يرغب بالإلمام بتفاصيل هذه الشعائر، وفي نفس الوقت إجباري على من كان دورهم لأداء الحج قد حان. سيتعرف المتدرب خلال سبعة عشر يوم على كل ما يتعلق بالحج والعمرة من أمور شرعية، وتاريخية، وصحية، وتنظيمية، وشعائرية. وكل ذلك بشكل نظري فقط. أما البرنامج التدريبي الثاني، فهو مكثف، وعلى مدار يومين، وخاص فقط بمن وقع عليهم الاختيار لأداء مناسك الحج، وفي نهايته يخضع المتدربون لامتحان تقديري، ينتقل من يجتازه إلى البرنامج الرابع، أما من لا يتمكن من اجتيازه فيخضع للبرنامج التدريبي الثالث، وهو لمدة يوم واحد، ويعتبر مكملا للبرنامج الثاني وخاصاً بمن لم يتمكنوا من اجتيازه. ويأتي التدريب العملي في البرنامج الرابع، حيث يجتمع جميع الحجاج في مكان واحد، ويمرون على مجسمات تمثل جميع مناسك الحج، فيطبّقون "بروفات" للطواف، والسعي، والمبيت، ورجم الجمرات.
بهذه البرامج التدريبة، يكون الحاج الماليزي قد ألمّ بكل ما يتعقل بالحج من واجبات ومحظورات، وعرف مسبقاً المخاطر التي يجب عليه اتقاؤها، والالتزامات التي يتوجب أداؤها.
أما فيما يخص تغطية تكاليف الحج، فتتيح مؤسسة "صندوق ادخار الحج" لكل مواطن ماليزي فرصة فتح حساب فيها، كأي حساب مصرفي، ويقوم صاحب الحساب بالإيداع على شكل أقساط حسب رغبته وإمكانيته، وحينما يكتمل في حسابه مبلغ 10 آلاف رنجت ماليزي (2200 دولار)، يصبح على قائمة انتظار الذين اكتملت متطلبات اختيارهم لأداء فريضة الحج.
فتكلفة أداء فريضة الحج هي 20 ألف رنجت (4500 دولار)، ويكفي المواطن الماليزي أن يوفر في حسابه نصف هذا المبلغ، وسيتكفل "صندوق ادخار الحج" بتقديم النصف الآخر من عائد الاستثمار والمضاربة بأموال المدخرين لديه. أما عن ترتيب وتنظيم تنقلات الحجاج بين مكة والمدنية، وتوفير مكان إقامتهم وغذائهم وطعامهم فكل ذلك مكفول أيضاً من قبل هذه المؤسسة، وذلك حرصاً من الحكومة الماليزية على أن لا يُغبن مواطنوها أو يتعرضوا لاحتيال أي من شركات ومؤسسات السياحة والنقل التجارية.
وبالإضافة إلى كل ما سبق، تعد هذه المؤسسة رافداً من الروافد الأساسية المساهمة في نمو اقتصاد ماليزيا، فبالإضافة إلى قيامها بتنظيم وإدارة شؤون الحجاج كما سبق، فهي تعتبر مؤسسة مصرفية إسلامية، تقوم بتوفير الخدمات الاستثمارية، والفرص التجارية، لاستثمار مدخرات وأموال الحجاج والمدخرين، بما يتوافق مع ضوابط الشرعية الإسلامية. فإحصائية عام 2013 تقول أن صافي إيرادات هذا الصندوق تخطى حاجز 9.1 مليار رنجت ماليزي، وبمقدار ربح يصل إلى 3.7 مليار رنجت. وهذا ما جعلها سندا للحكومة في مواجهة الأزمات الاقتصادية التي هددت البلاد في أكثر من فترة.
من الضروري أن يتعرف الحاج على كل منسك من مناسك الحج، ويطلع على أحكامه، وحكمته، وأن يفهم الجانب التعبدي منه، قبل أن ينتقل إلى الديار المقدسة ويباشر أداء هذه العبادة. فهذا كفيل بأن يؤدي الحاج عبادته على الشكل الذي شرعت لأجله، وكفيل كذلك بأن نتجنب سماع أو مشاهدة أخطاء حجاج أقرب ما تكون إلى الطرف والقصص الفكاهية، والتي أكثر ما تكون أثناء رجم الجمرات على سبيل المثال. هذه الأخطاء، بطبيعة الحال، ناتجة عن جهل الحاج وعدم معرفته المسبقة بحكمة ومعاني ومبادئ هذه العبادة.
لقد ضرب "صندوق ادخار الحج" الماليزي أفضل الأمثلة في تيسير وتسهيل أداء فريضة الحج، فهل تعدنا الأيام بنموذج مماثل في دولنا العربية عما قريب؟ نتمنى ذلك..