يوم الاثنين الماضي 12/10 قام اثنان من الفتيان
الفلسطينيين، هما أحمد مناصرة (13 عاما) وابن عمه حسن (15 عاما)، بطعن
إسرائيليين في مستوطنة "بسغاف زئيف" بالقدس المحتلة.
أحمد أصيب إصابة بالغة بعد إطلاق الرصاص عليه وحسن قتل. في اليوم ذاته طعنت شروق دويات (19 سنة) شرطيا من حرس الحدود قرب مقر الشرطة بالقدس، وكان مصطفى الخطيب (18 سنة) قد قتل برصاص الشرطة بعدما طعن أحد عناصرها بسكين قرب باب الأسباط في البلدة القديمة بالقدس.
فرح باكير من سكان بيت حنينا (17 سنة) فعلت نفس الشيء، وكذلك علي محمد أبو سعيد، من يطا جنوب محافظة الخليل.
والقائمة طويلة، إذ تحدث موقع "واللا" العبري عن 26 عملية طعن منذ بداية الشهر الحالي، منهم 18 يحملون هوية إسرائيلية، 8 من الضفة الغربية. وذكر عاموس هارئيل المحلل السياسي لصحيفة هآرتس أن ما بين ثلاثة إلى أربعة إسرائيليين باتوا يتعرضون للطعن يوميا من جانب الفلسطينيين، الأمر الذي اضطر وزير الأمن الداخلي جلعاد أردان إلى استدعاء 13 كتيبة من جنود الاحتياط لنشرها في القرى والمدن التي يعيش فيها فلسطينيو عام 1948.
غضبة الفلسطينيين فاجأت الجميع، وذكَّرت العرب بقضيتهم التي كانت مركزية يوما ما، وراهن البعض على نسيانها وإخفاء ملفها وراء ضجيج الأحداث الأخرى التي تعج بها المنطقة. المفاجأة كانت جديدة في نوعها وحافلة بالتفاصيل المثيرة، من أهم تلك التفاصيل أن الذين أطلقوها هم أبناء مرحلة ما بعد "أوسلو"، التي وقعت بين القيادات الفلسطينية والإسرائيلية في عام 1993، أي قبل 22 عاما، تشهد بذلك قائمة الشبان والفتيات الذين سبقت الإشارة إليهم؛ إذ هم يمثلون الأغلبية الساحقة من الذين انتفضوا غضبا وتسابقوا على طعن المستوطنين وتصفية الحساب معهم، وهو الجيل الذي راهن البعض على أنه سوف يذوب في المحيط الإسرائيلي بمضي الوقت ويستسلم للأمر الواقع المفروض لتطوى بعد ذلك صفحة القضية.
وتبين بعد نحو عشرين عاما أنه لم ينس ولم يستسلم للقهر والذل، لكنه كان يختزن المرارة والكراهية للذين اغتصبوا الوطن وشردوا أصحاب الأرض.
من الملاحظات أيضا أن أولئك الشباب انطلقوا من داخل الدولة العبرية، وليس من غزة أو الضفة، الأهم من ذلك أنهم جاءوا من خارج المنظمات الفلسطينية التقليدية، لم يتلقوا تعليمات ولا توجيهات ولا حتى تدريبات من أي نوع، إذ لم يحملوا سلاحا ولا فجروا موقعا ولا قاموا بهجوم منظم. ذلك أن كل واحد عبَّرَ عن كراهيته للاحتلال والإذلال بطريقته وفي حدود قدرته، كان السكين سلاحا في متناول الجميع، تلته الحجارة والزجاجات الحارقة.
بدا مثيرا للانتباه كذلك أن أداء الشبان والفتيات اتسم بدرجة عالية من الجرأة. فكل واحد كان يعلم مسبقا أنه لن يخرج حيّا من فعلته، مع ذلك فإنهم أبدوا بسالة في تحدِّي الجنود الإسرائيليين المدججين بالسلاح، إذ لم يعودوا يرهبوهم أو يخيفوهم. ورأيت أشرطة فيديو لشباب وفتيات يتضاحكون وهم يرشقون الجنود الإسرائيليين، وأدهشني منظر شاب كان "يدبك" -من رقصة الدبكة- وهو يركض حاملا مقلاعه "ليقصف" الإسرائيليين بالحجارة.
سواء وصف ما جرى بأنه هبَّة أو فزعة أو انتفاضة، فلا أحد يجادل في أنه انفجار لمخزون الغضب والكراهية يعبر عن رفض الاحتلال بكل ممارساته. وهو ينسب إلى الضمير الفلسطيني وليس إلى سلطة أو جماعة أو فصيل من أي نوع. لقد انطلقت انتفاضة عام 1978 بعدما دهس سائق شاحنة إسرائيلي مجموعة من العمال الفلسطينيين عند معبر "إريز" وقتل منهم ثلاثة، ففجر ذلك المشاعر المختزنة وهاجم الفلسطينيون بالحجارة موقعا للجيش الإسرائيلي في مخيم جباليا، وحين جاء الرد من تل أبيب اتسع نطاق الغضب وعم الحريق الأرض المحتلة، الأمر الذي كانت اتفاقية أوسلو (عام 1993) من ثماره.
الانتفاضة الثانية انطلقت في عام 2000 بسبب عدوان إسرائيلي آخر، تمثل في اقتحام آرئيل شارون رئيس الوزراء آنذاك المسجد الأقصى، فاستفز مشاعر المسلمين الذين عبروا عن غضبهم بانفجار آخر عم الأرض المحتلة، ورد الإسرائيليون ببناء السور الذي أرادوا الاحتماء به من الغضب الفلسطيني.
الانتفاضة الثالثة التي نحن بصددها أطلق الإسرائيليون شرارتها أيضا، حين أضرم المستوطنون النار في بيت سعد الدوابشة في قرية دوما بمحافظة نابلس، مما أدى إلى إحراق طفله الرضيع علي، ثم قتل الأبوين بعد ذلك، وهي الجريمة التي وقعت في شهر أغسطس الماضي، وأعقبها اقتحام المستوطنين بقيادة أحد الوزراء للمسجد الأقصى والإصرار على التقسيم الزماني له مع المسلمين. وهو التراكم الذي دفع الشباب الفلسطينيين إلى التعبير عن غضبه ونقمته على النحو الذي نشهده الآن.
ليس معروفا ما الذي سيسفر عنه الغضب الراهن، فقد تحدثت التقارير الصحفية عن إجراءات صارمة اتخذتها الحكومة الإسرائيلية لتأديب الفلسطينيين وإنذارهم، في حين أشارت إلى جهود للتهدئة تبذلها السلطة الفلسطينية في رام الله بتشجيع وضغط من بعض الدول العربية المنشغلة بهمومها الداخلية. إلا أن ذلك لن يغير من الموقف شيئا طالما ظل الانسداد قائما وبدائل الحل العادل منعدمة. وإزاء ذلك فإن استمرار
الكراهية ومضاعفتها سيظل حلا، والعنف الخارج على السيطرة سيصبح التعبير الوحيد عنها، صحيح أنه حل باهظ التكلفة، ولكن من لديه بديل آخر غير الانبطاح فليدلنا عليه.
(نقلا عن صحيفة بوابة الشرق)