كتب صالح القلاب: نسب، ربما، إلى وزير الدفاع
الإسرائيلي موشي دايان أنه قال في ذروة انتصار إسرائيل في حرب عام 1967: "إن العرب لا يقرأون، وإنهم إْن قرأوا فإنهم لا يفهمون". وحقيقة، إن هذا هو ذروة العنصرية المقيتة، وإن هذا هو ذروة التباهي العرقي، وأغلب الظن أَّن هذا الصهيوني المتعصب الذي كان متورما بداء الكراهية للآخرين لا يعرف أَّن أول ما نزل من القرآن الكريم كان: "اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم".
وبالتأكيد، فإن موشي دايان لو أنه يقرأ، ولو أنه إْن هو قرأ فهم، لكان يعرف أنه كان للعرب حتى قبل الإسلام مهرجان سنوي اسمه "سوق عكاظ"، وأنه كانت تتم في هذا السوق الذي يقام في منطقة إلى الشمال من الطائف على طريق مكة المكرمة، المباريات والمبارزات الشعرية، ومن بينها ما كان يعلق لاحقا على أستار الكعبة، وأن العرب كانت أرقامهم هي هذه الأرقام التي يستخدمها الغرب ومعه العالم كله، وأنهم، أي العرب، هم أصحاب علم "الجبر"، وذلك بينما كان هذا الغرب يغط في سبات عميق ولا يعرف حروف الكتابة إَّلا كهنة الكنائس والأديرة.
ربما أن دايان وغيره من الإسرائيليين المصابين بداء العنصرية القاتل لا يعرفون أَّن العرب قد أسسوا في الأندلس، في إسبانيا اليوم، دولة كانت منارة الإشعاع الحضاري في العالم بأسره، وأنه كان فيها جامعات كانت، مع الأخذ بعين الاعتبار فارق الزمن، أهم من "هارفرد" ومن "جورج تاون" ومن "كولومبيا يونيفيرستي" في الولايات المتحدة ومن "أكسفورد" و"كمبرج" في بريطانيا، وأنه كانت جامعات تلك الدولة العربية محج طلبة العلم الطلائعيين من كل مناطق أوروبا وأصقاعها، بل من كل عالم تلك المرحلة من التاريخ بأسره.
في كل الأحوال، إَّن هذا كان مدخلا ضروريا لاستعراض "مذكرة" مطولة كانت وجهتها وزير الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت في عام 2008 إلى مْن سّمته: "الرئيس المنتخب" الذي لم تكن قد عرفته بعد لأن الانتخابات الرئاسية لم تكن قد جرت، ولأن كل استطلاعات الرأي لم تكن قد أشارت إلى أنه من الممكن أن يكون هذا الرئيس هو الرئيس الحالي باراك أوباما الذي اقتربت نهاية ولايته الثانية، والذي سيحكم التاريخ في هذه "المذكرة" التي كانت نشرت جزءا منها إحدى الصحف العربية المهاجرة "الطلائعية" الغراء فعلا ما إذا كان من أفضل الرؤساء الأميركيين أم من أسوئهم!!
تكهنت مادلين، ابنة الدبلوماسي الألماني الذي كان عمل سفيرا لبلده لدى المملكة المتحدة، بأن العراق سيثير 3 كوابيس، وأن الحل الوحيد قد يكون السماح بانقسامه، وفي هذه المذكرة قالت وزيرة الخارجية الأميركية في قراءة لواقع الحال: "قْلُت في كتابي (الجبروت والجبار) يمكن في النهاية أن يكون غزو العراق وما تلاه من أسوأ كوارث السياسة الخارجية في التاريخ الأميركي". وقالت أيضا: "لست ممن قدموا الُّنصح لمصلحة الانسحاب المبكر لكل القوات الأميركية من العراق.. وأعتقد أن الرئيس بوش كان مصيبا عندما زعم أن الانسحاب المتهور يمكن أن يؤدي إلى كارثة".
وقالت أيضا، مخاطبة الرئيس المنتخب الذي لم يكن قد عرف اسمه بعد: "ثمة ثلاثة كوابيس قد تلازم رئاستك أولا، يمكن أن تصبح المنطقة التي يسيطر عليها الُّسنة في العراق نظرا لافتقارها للمؤسسات الحاكمة الشرعية ملاذا آمنا ومنطقة تجنيد وتدريب لـ(القاعدة) ثانيا، قد يظهر خنوع الحكومات العراقية المقبلة أمام إيران التي ستزداد قوة فتتقاسم معها المعلومات الاستخبارية، أما ثالثا، فقد يصبح العراق شديد التصدع بسبب النزاع وبحيث قد تشتعل حرب تشمل المنطقة". وتضيف مادلين أولبرايت: "تنتهي الحروب الأهلية عادة بطريٍق من ثلاثة، فإما أن يهزم طرٌف الطرف الآخر، وإما أن تتدخل قوة خارجية لفرض السلام، وإما أن ينهك الطرفان نفسيهما بالضعف.. إن النتيجة الأولى غير محتملة في العراق، وإن النتيجة الثانية لن تنجح، أما الثالثة فإنها قد تستغرق عقدا أو أكثر!!".
أضافت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة: "خلال الحملة الانتخابية اتفقت مع المرشحين الآخرين على أَّن إيران تشكل أكبر تهديد للمصالح الأميركية، إذا وضعنا (القاعدة) جانبا، ويستند هذا التقدير إلى حٍّد كبير إلى الخوف من أن تتحدى طهران الضغط الدولي وتنتهك التزاماتها أمام الوكالة الدولية للطاقة الذرية وتصنع أسلحة نووية.. وقد تنخرط إيران، المسلحة بأسلحة نووية في الابتزاز الدبلوماسي أو تنقل التكنولوجيا (الذرية) إلى مجموعة إرهابية!! أو تطلق سباق تسلح إقليمي.. أو تحاول تدمير دولة إسرائيل!!".
وانتهت مادلين في هذا "المختصر" من مذكرتها آنفة الذكر إلى القول: "قد يكون استخدام القوة (ضد إيران) ضروريا في النهاية.. ومع ذلك (مخاطبة الرئيس المنتخب الذي لم يكن قد انتخب بعد) عليك تحديث خطط الطوارئ باستمرار وأن تكون مستعدا لاحتمال وقوع حوادث عرضية في الخليج.. فالسطح المائي صغير، والسفن الحربية كبيرة والتوترات عالية.. والأخطاء تقع، وإذا ارتكب الأميركيون خطأ فلن تستطيع أبدا إقناع إيران وستجد صعوبة في إقناع أحد بأننا لم نكن ننوي إثارة القتال، وإذا كانت إيران هي المخطئة فإنك ستواجه ضغوطا داخلية هائلة للرد بقسوة، خصوصا إذا أزهقت (أي طهران) أرواح أميركيين".
في النهاية، أي في نهاية هذا الجزء من مذكراتها قالت أولبرايت: "هناك حدود اجتماعية ودبلوماسية وعسكرية للقوة الإيرانية.. ولا بد من ظروف استثنائية جدا كي يتمكن بلد فارسي من السيطرة على منطقة تتكون من (دولة يهودية) وأخرى تركية وبقية الدول العربية.. إنه على حلفاء إيران في العراق ولبنان (وأيضا التابع للإيرانيين في
سوريا) أن يبدو المزيد من الحذر كي لا يبدو دمى في اليد الإيرانية".
وفي ما يتعلق بسوريا فإن وزيرة الخارجية الأميركية لم تتطرق إليها في مذكرتها هذه لا من قريب ولا من بعيد، فالوقت كان لا يزال مبكرا جدا، وعام 2008 كان يفصله عن عام 2011 نحو ثلاثة أعوام، لكن ومع ذلك فإن ما مارسه الرئيس باراك أوباما من سياسات مترددة بائسة ومتخاذلة هو الذي مكن إيران من السيطرة سيطرة كاملة، عسكريا وأمنيا واستخباريا وسياسيا، وكل شيء، على العراق وعلى الدولة السورية بكل ما فيها وما على أرضها التي لا تزال غير خاضعة للمعارضة السورية.
وهكذا، فيقينا إن لم تقع معجزة في زمن لا معجزات فيه فإن تنبؤات أولبرايت المبكرة ستنطبق بالتأكيد على سوريا أكثر كثيرا من انطباقها على العراق؛ فهذا البلد (القطر العربي السوري)، حسب مصطلحات حزب البعث وتعبيراته، دفعه هذا النظام، بتخطيط وتنفيذ إيران، دفعا على طريق الانقسام والتشظي، وهنا فإن ما يعزز هذا التوقع المرعب أَّن أحد الحلول المطروحة جديا لإنهاء "الأزمة السورية" يقترح دويلة طائفية في جزء من سوريا قد تقتصر على المناطق العلوية (الخالصة)، وقد تضم أيضا جزءا من مدينتي حمص وحماه وشريطا يُّمر عْبر سهل الغاب ليربط ولو جزءا من دمشق العاصمة بمدينة اللاذقية المحاذية للقاعدة الروسية الجديدة على الشاطئ الشمالي للبحر الأبيض المتوسط.
لا نعرف على وجه التحديد ما رأي وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت الآن بالرئيس باراك أوباما وبما فعله وبخاصة في العراق وسوريا.. وأيضا بالقضية الفلسطينية.. لا نعرف ما إذا كانت هذه الدبلوماسية المخضرمة تتفق أم لا مع الذين يحِّملون هذا الرئيس الديمقراطي مسؤولية احتلال إيران لبلاد الرافدين التي من المفترض أنها لا تزال أمانة في عنق الولايات المتحدة، والذين لا يعتقدون فقط، بل يؤكدون أن هذا الرئيس هو سبب كل المصائب والويلات التي حَّلت بالدولة السورية والشعب السوري، وأخطر هذه المصائب هو أنه أصبح لروسيا كل هذا الوجود العسكري على شواطئ المتوسط الشمالية!!
(صحيفة الشرق الأوسط- 29 تشرين الأول/ أكتوبر 2015)