في سبتمبر 2013 باعت جويس باندا رئيسة مالاوي طائرتها الرئاسية مقابل 15 مليون دولار، وأعلنت وزارة الخزانة في الدولة الأفريقية الفقيرة أن ثمن الطائرة سيتم استخدامه لإطعام أكثر من مليون شخص يعانون نقصا مزمنا في الغذاء مع تخصيص جزء من هذا المبلغ لإنتاج البقول، كما أعلنت عن بيع 35 سيارة مرسيدس يستخدمها المسؤولون الحكوميون في تنقلاتهم للغرض نفسه.
الرئيس السنغالي ماكي سال أيضا أقدم على تصرف مماثل حين قرر استخدام الرحلات التجارية العادية في تنقلاته للخارج، وعدم استخدام طائرة رئاسية، وذلك في إطار سياسة تقشفية تسعى لترشيد النفقات العامة.
في أكتوبر 2014 وصل خوسيه موخيكا رئيس أورجواي إلى لجنته الانتخابية لاختيار خليفة له مستقلا سيارته الخاصة فولكس فاجن موديل 1987، وهي السيارة التي استخدمها طوال فترة توليه الرئاسة رافضا تخصيص سيارة له من أموال الشعب الذي يعيش ظروفا اقتصادية صعبة.
عاش موخيكا سنواته الأربع في الرئاسة في بيت ريفي بمزرعته ورفض العيش في القصر الرئاسي، أو إحاطته بحراسة مشددة كالتي يتمتع بها رؤساء العالم، كان يتلقى راتبه الشهري البالغ 12 ألفا و500 دولار فيحتفظ لنفسه بـ10% فقط منه ويتبرع بالباقي للجمعيات الخيرية، ورغم ذلك كله استضاف في بيته 100 يتيم سوري ومع كل منهم شخص بالغ من ذويه.
في يونيو 2013 أغلقت اليونان تلفزيون ERT الرسمي لدواعي التقشف، بعد أن وصفته الحكومة اليونانية السابقة بأنه "ملاذ للتبذير" لأنه يكلف الدولة 337 مليون دولار سنويا، وسرحت 2600 موظفا كانوا يعملون به، وعندما عاد إلى العمل بعد ذلك بعامين عاد بميزانية لا تتجاوز مبلغ 3 يورو، هذا كله إلى جانب إجراءات حازمة لتخفيض الإنفاق الحكومي في البلاد.
نعم يمتلئ التاريخ بتجارب التقشف، من أفريقيا إلى أمريكا اللاتينية وصولا لأوروبا، لكن قصور الرئاسة ودوائر الحكم كانت في القلب منها، لأنها في الغالب تكون هي سبب المشكلة ولأن الشعب يلزمه أن يرى تقشفا من حكامه حتى يرتضي بقية الإجراءات التقشفية.
***
عبد الفتاح
السيسي لم يكن بعيدا عن ذلك، قرر بدوره مطالبة الشعب باتخاذ إجراءات تقشفية لتجاوز الفترة الحالية بعد تراجع دخل السياحة على خلفية سقوط الطائرة الروسية مؤخرا، وقال مخاطبا
المصريين بينما كان يتفقد مطار شرم الشيخ الدولي: "احنا نجوع وما نأكلش بس نبني بلدنا".
اتفق السيسي مع باندا وسال وموخيكا في مبدأ التقشف، لكنه يختلف عنهم في أنه طلب التقشف من الشعب دون أن يشمل التقشف قصره وحكومته وكبار معاونيه، حيث ارتفعت مخصصات رئاسة الجمهورية في الموازنة الجديدة بنحو 31.8 مليون جنيه عن العام المالى الماضى، لتبلغ 393.1 مليون جنيه، كما زادت مخصصات وزارة الداخلية بنحو 1.2 مليار جنيه عن العام الماضي لتبلغ 7.8 مليار جنيه، وهي نفس الموازنة التي تضم 45 مليار جنيه تحت بند "مصروفات أخرى".
كما ضم التشكيل الوزاري الجديد 33 وزارة، تكلف خزانة الدولة 300 مليون جنيه مابين رواتب ومصروفات تشغيل للمقرات والسيارات (قبل زيادة أسعار البنزين)، إضافة إلى 430 مليونا أدوات مكتبية ما بين أوراق وأقلام وأحبار وغيرها، في حين تدير الولايات المتحدة حكومة من 14 وزارة، ولا تتجاوز الحكومة الصينية 18 وزارة تدير شعبا قوامه يتجاوز المليار نسمة.
بخلاف الثقب الأسود الكبير الذي يلتهم أموالا ضخمة من ميزانية الدولة والذي يسمى "المستشارين"، فبحسب صابر عمارة، مستشار رئيس الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة، هناك تقارير من المركزي للمحاسبات أكدت أن رواتب المستشارين المنتدبين وصلت إلى 200 مليار جنيه، حيث حصر الجهاز نحو 548 مستشارا منتدبا يتقاضى كل منهم 8 آلاف جنيه شهريا كحد أدنى.
***
يطلب الرؤساء من حكوماتهم التقشف لتعيش شعوبهم، ويطلب السيسي من الشعب التقشف لتعيش الحكومة.
نعم تعيش مصر ظروفا اقتصادية صعبة، لكن من الذي أوصلها لهذا الحال؟ أوصلها إليه من كان يظن أن الهبات الخليجية ستستمر للأبد، من أنفق المليارات لإنجاز مشروع ازدواج قناة السويس في الوقت الخطأ، من أضاع الملايين على مؤتمر اقتصادي لم يأت بجديد، من دعم استقطابا تسبب في تبعات أمنية واقتصادية لا يحتملها اقتصاد يترنح، من يتجاهل كل صوت ينادي بالإصلاح ثم يقطع لسانه في مرحلة تالية.
على من تسبب في المشكلة أن يبدأ بنفسه، إن كان يريد منا أن نتقشف فلنرى التقشف أولا عليه وعلى حكومته ومؤسساته، أن نلمس منه رغبة في مراجعة سياساته التي تسببت في الأزمة من الأساس لا أن يواصلها ويطالبنا بتحمل نتائج الفشل، أن يرحل إن كانت الشيلة تقيلة عليه لأن مسؤولية الرئيس أن يحمي الشعب من الجوع لا أن يطالبه بتحمله.