ما أشبه الليلة بالبارحة، بين هجمات 13 نوفمبر 2015 وهجمات 11 سبتمبر 2001، أربعة عشر عاما، تكرر فيها الفعل وتبدل الفاعل والمفعول، وبقيت النتيجة واحدة في الحالتين وهي انتقام غربي واسع من العالم العربي والإسلامي الذي لايقبل في عمومه هذه الأفعال الإجرامية لكنه في مجمله أيضا يدفع ثمنها.
كان الرد الأمريكي على أحداث 11 سبتمبر، غزو أفغانستان، وتعيين حكومة موالية لواشنطن حتى يومنا هذا، وفرض حكم عسكري بقيادة برويز مشرف على باكستان ألغى الحياة الديمقراطية في البلاد لعدة سنوات، ثم غزو العراق والذي لاتزال تداعياته قائمة حتى يومنا، وفي "الثانية" كان الرد المبدئي في اليوم التالي مباشرة للهجمات هو إقرار تسوية سياسية للحرب في سوريا طرحتها روسيا في اجتماع فيينا تبقي على نظام الأسد، كانت الخطة مرفوضة غربيا وعربيا، وكانت على وشك التعديل لكن وقوع التفجيرات أسهم في قبول الرؤية الروسية سريعا، ولازلنا بانتظار ردود الفعل الفرنسية والأوربية والغربية الأخرى.
في أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 هللت غالبية الشعب
المصري والشعوب الإسلامية كثيرا لتلك التفجيرات، باعتبارها نوعا من التأديب للولايات المتحدة على مجمل سياساتها الظالمة في المنطقة، لكننا نلمس اليوم رشدا في الرؤية حيث صدرت بيانات الشجب والإدانة من كل الهيئات الإسلامية باستثناء داعش (إن جاز وصفها بالاسلامية) ولم يهلل لتفجيرات باريس سوى الأذرع الإعلامية لسلطة الانقلاب في مصر التي "عايرت" الفرنسيين والدول الغربية عموما بما حدث بدعوى أنها لم تسمع لنصائح السيسي ولم تساعده في حربه ضد ثوار مصر.
فارق كبير بين حروب داعش وأجندتها في المنطقة، وبين ثورات الشعوب العربية من أجل حريتها وكرامتها، وحين انتصرت الثورات في جولاتها الأولى تراجعت الجماعات المسلحة في نسختها الأولى "القاعدة" وحتى في نسختها الحديثة "داعش"، وحين تعرضت الثورات للتآمر من قبل الثورات المضادة المدعومة إقليميا ودوليا عاد النشاط والألق لداعش مجددا، وحين تضرب داعش اليوم في باريس فإنها لن تكون الوحيدة التي ستدفع الثمن، بل ربما كانت الأقل دفعا، فهاهو التنظيم في سوريا يتمدد بينما ضربات النظام والحليف الروسي تتركز على مواقع الحركات الثورية الأخرى.
الآن وبعد أن تنتهي فرنسا من لملمة أشلاء قتلاها، ستتحرك نحو فعل إنتقامي يضمد هيبتها الجريحة، وفي الأغلب سيكون إتجاهها نحو الأراضي التي يسيطر عليها "داعش" في سوريا والعراق، وقد يكون تحركها من خلال تحالف دولي جديد لحرب داعش بقيادتها هذه المرة، وستسعى لضم دول جديدة إليه، أو ربما تكتفي بزيادة دورها ضمن التحالف الحالي، وهنا فإن نظام السيسي سيجدها فرصة ذهبية لتقديم خدماته مجددا للفرنسيين بعد دفعه المليارات لهم في صفقتي الرافال والميسترال، ولكنه على الأرجح سيطلب توسيع حرب داعش لتشمل فرع التنظيم في سيناء الذي عجزت سلطته عن القضاء عليه حتى الآن.
في حال شروع فرنسا في الرد الإنتقامي سنكون أمام 4 إحتمالات، أولها انتصار فعلي لهذا التحالف في دحر "داعش" واسترداد الأرض التي سيطرت عليها في سوريا والعراق وتسليمها لسلطتي البلدين، وفي هذه الحالة سيعتبرذلك مكسبا للنظام السوري الذي سيدخل مفاوضات التسوية السياسية من مركز قوة يمكنه من فرض رؤيته أو غالبها، كما أن انتصار هذا التحالف في معقل داعش سيحفزه لملاحقة التنظيم في مواقع أخرى سواء في سيناء أو ليبيا، ولكن هذا السيناريو لن يمر بسلام من قبل تنظيم داعش الذي عرف طريقه إلى قلب أوربا ناقلا حربه إلى هناك حيث يستطيع الضرب الموجع باعتبار أن تلك الضربات ليست بحاجة لجيش نظامي ولا لعتاد عسكري كبير، كما ان يمتلك العديد من الكوادر الاوربية المدربة المنتمية له والتي تعرف طريقها إلى أهدافها بسهولة، وهنا قد نجد أنفسنا أمام حرب كونية من طراز جديد تماما لايمكن لنا التنبؤ بنهايتها.
الاحتمال الثاني أن تنتكس جهود التحالف في حربه مع داعش خاصة أن التحالف لن يتمكن من الحسم سوى بالحرب البرية، وهو الأمر الذي يكلفه خسائر بشرية كبيرة لاطاقة لفرنسا ولا لغيرها من الدول الأوربية بها، والتي قد تدفع الشعوب الأوربية للضغط على حكوماتها للانسحاب، ولهنا لا أعتقد أنه يمكن القياس على تجربة الاجتياح الأمريكي للعراق في العام 2003 والتي لم تشهد خسائر بشرية كبيرة، ذلك أن قوات صدام إنهارت سريعا أمام الإجتياح الأمريكي بسبب افتقادها للروح المعنوية على خلاف مقاتلي تنظيم داعش الذين تحركهم بالأساس دوافع دينية، وفي هذه الحالة سيثبت التنظيم أركانه في مواطنه الحالية وسيتمدد في دول أخرى، وقد يصبح اكثر إغراء للشباب العربي على حساب الثورات السلمية التي تشهدها المنطقة.
أما الاحتمال الثالث فهو أن تطول الحرب بين التحالف الدولي الجديد وداعش بدون حسم لأيهما، وهذا ما يوفر فرصة ثمينة للثورات العربية وخاصة الثورة المصرية لحسم الأمر لصالحها مستفيدة من انشغال العالم بحربه مع داعش، وانشغاله بالتالي عن الأوضاع في مصر وفي دول عربية أخرى.
وما قد يدعم هذا الإحتمال هو إدراك مراكز صنع القرار والتفكير في فرنسا والغرب مسئوليتها عما حدث عبر دعمها للأنظمة الديكتاتورية ومساهمتها في وأد ثورات الشعوب العربية، وهذا الإدراك يدفعها لوقف دعمها لهذه النظم ما يسهل على الثورات الخلاص منها.
الاحتمال الرابع أن تكتفي فرنسا بالتحالف الحالي مع زيادة دورها فيه، وتوجيه ضربات انتقائية لمواقع التنظيم، وإلى جانب ذلك قد نجد ردا فرنسيا أوربيا موجها نحوالأقليات المسلمة لفرض مزيد من الضغوط والقيود عليها، مع أن ذلك قد يسهم في دفع المزيد من الشباب الغاضب للالتحاق بتنظيم داعش والقيام بالمزيد من العمليات الإرهابية في قلب أوروبا.
دور قادة الثورات العربية ومنظريها الآن هو الحفاظ على تمايز هذه الثورات، والتركيز في أهدافها وعدم الانجرار لمعارك جانبية تستزفها، وتوضيح طبيعة هذه الثورات وأهدافها لشعوب العالم بهدف استقطاب دعمها ودفعها للضغط على حكوماتها لوقف دعمها للنظم المستبدة، فالثورات الشعبية لاتنتظر دعما من أية حكومة غربية ولكنها تريد فقط من تلك الحكومات رفع غطائها عن المستبدين.