كتاب عربي 21

أساور إلكترونية لفرنسا "البيضاء"

1300x600
في تونس، أعلن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، الجمعة الماضي، مخاطبا "الإرهابيين المرتبطين بداعش": "ليعلموا أن أيامهم باتت معدودة وسيهزمون". 

ربما كان الوزير الأمريكي منتشيا بالأخبار القادمة يومها صباحا من سنجار العراقية التي استعادتها القوات الكردية أو تكاد. لكن اليوم لم ينقض بعد حتى كان الرد مزلزلا وغير مسبوق من العاصمة الفرنسية باريس على هامش مباراة كرة قدم ودية جمعت الفرنسيين بالألمان، بحضور الرئيس فرانسوا هولاند

سمع المتفرجون دوي انفجارين قويين من خارج الملعب، قبل أن تتواتر الأخبار عن مسلحين يجوبون العاصمة الفرنسية، مخلفين وراءهم قتلى لا ينفك عددهم يزيد بعد أن تخطوا حاجز المئة. 

لو كان الانتحاريون تمكنوا من الولوج إلى الملعب، لكانت العملية منقولة على المباشر، وتحت أنظار الرئيس الذي دعا بداية السنة إلى مسيرة جمهورية، على إثر الهجومات التي عاشها الباريسيون يناير الماضي، واعتقدها وسيلة لاستعادة شعبية متهاوية نتيجة فشل داخلي وخارجي.

كانت تلك سلسلة هجمات (Des attaques en série) لم تتأخر داعش عن تبنيها ردا على المشاركة الفرنسية في  الهجمات على التنظيم بسوريا (Des attaques en Syrie)، وهنا لعبت اللغة الفرنسية لعبتها في الربط بين الاثنين قبل التبني وبعده.

فرانسوا هولاند ونيكولا ساركوزي ومارين لوبن، المرشحون المفترضون للانتخابات الرئاسية القادمة، أجمعوا على اعتبار ما وقع ليل الجمعة "أعمالا حربية" على فرنسا وقيم الجمهورية الخامسة. 

وهو ما استدعى حزمة قرارات سريعة لعل أبرزها كان إعلان حالة الطوارئ، وتأجيل المباريات الرياضية وكل التجمعات في الأماكن العامة، وإلغاء الدراسة في المدارس والجامعات، بعد أن طلبت عمودية باريس من سكانها البقاء في منازلهم. 

وتم تعليق العمل باتفاقيات شنغن، بما يعنيه ذلك من عودة عمليات التثبت من الهويات وتفتيش الأشخاص والمركبات على المنافذ الحدودية الفرنسية البرية والبحرية والجوية، بعد أن أعلن هولاند في أول كلمة له بعد الأحداث عن "غلق الحدود". 

هي حالة خوف معلنة تعيشها فرنسا التي لا تملك، على ما يبدو، ما يكفي من القدرات والمعلومات لمواجهة التهديد الإرهابي، لدرجة لم يستبعد فيها رئيسها ورئيس وزرائه ووزير داخليته أن باريس مهددة بعمليات أخرى.

تعليق العمل باتفاقية شنغن كان منتظرا، حيث أفاد وزير الداخلية الفرنسي، برنار كازنوف، قبل أسبوع، أن فرنسا ستفرض رقابة على حدودها خلال انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة حول المناخ، الذي ستحتضنه باريس من 30 تشرين الثاني/ نوفمبر حتى 11 كانون الأول/ ديسمبر. 

وكان منتظرا أن يستمر هذا التعليق مدة شهر واحد، كما تنص عليه الاتفاقية. 

التحدي الأمني كان حاضرا طوال الاستعدادات لمؤتمر المناخ العالمي الذي سيشهد مشاركة وفود رسمية من 195 بلدا، وحضور العديد من رؤساء الدول والحكومات. 

وكان الخوف منصبا أكثر على الجماعات المناهضة للعولمة، لكن تفجيرات باريس عجلت بتفعيل الإجراء، وفتحت بالمناسبة ملف تأمين التظاهرة العالمية على تحد أكبر وأقوى.

قبل أيام فقط (8 نوفمبر)، بثت القناة الفرنسية الأولى TF1، فيلما بعنوان (لا شيء للتصريح به) للمخرج داني بون من إنتاج العام 2010. يحكي الفيلم قصة جمركيين من فرنسا وبلجيكا يتوصلان بخبر إلغاء الحدود، بما يعني انتهاء مهامهم الاعتيادية في المراكز الجمركية. 

حدث ذلك في الأول من شهر يناير من العام 1993، تطبيقا لاتفاقية شنغن الموقعة شهر يوليو من العام 1985، بين خمس دول كانت فرنسا وبلجيكا، قبل أن يصل العدد اليوم إلى 26 دولة.

ليلة التحول إلى أوروبا الجديدة، يقوم الجمركي البلجيكي، الرافض لكل ما هو فرنسي والمعتز بالقيم البلجيكية المحلية، بجولة على النقطة الجمركية التي يحرسها زميل له كان يغط في نوم عميق. يجر روبن زميله فانوكسيم خارج مكتب المراقبة، ويتوقفان وسط الممر الجمركي. 

روبن: ماذا ترى؟

فانوكسيم: الشارع.

روبن: انس الشارع (يمسح برجله على الأرض لإزاحة الثلوج) ماذا ترى؟

فانوكسيم: خطا مصبوغا باللون الأصفر.

روبن: ليس هذا مجرد خط مصبوغ بالأصفر. هنا مات مواطنون خطوا تاريخ بلادنا بدموعهم ودمائهم ودفعوا حياتهم ثمنا لحماية أراضينا. لهذا السبب يوجد هذا الخط الأصفر هنا. لا تنس أبدا أنهم قاتلوا هنا بشجاعة وولاء وقوة في سبيل إفشال مخططات الغزو البربري الخارجية. هنا أوقفوهم ليتمكنوا من بناء الأرض المقدسة لمملكة بلجيكا. هل علمت الآن أهمية هذا الخط الأصفر. لقد قضوا هنا شجعانا وبرؤوس مرفوعة.

الفيلم كان بنفس كوميدي، وكان الخطر الداهم وقتها تجارة المخدرات وتهريبها. ما وقع في باريس ليل الجمعة الأخيرة، لم يكن كوميديا بل دراما حقيقية، كشفت مدى تغلغل الشبكات النائمة والنشيطة للمجال الأوروبي، رغم كل الترتيبات الأمنية المعتمدة منذ أشهر. 

ومن هذه الحدود الفرنسية البلجيكية، بالذات، كان الخيط الأول الذي سمح للتحقيق بالتقدم، حيث ثبت أن عددا من الانتحاريين الفرنسيين قدموا لباريس من بلجيكا، فصاروا يحملون تسمية "الخلية البلجيكية" في التحقيقات ووسائل الإعلام.

كلما أحست دولة أوروبية أن قيمها مهددة بـ"غزو من طرف خارجي"،  تذكرت الحدود وسارعت إلى تشديد الرقابة عليها دون المساس بالتزاماتها اتجاه الكيان الأوروبي الوحدوي الذي صار الحامي الأهم لوجودها واستمرارها، بالرغم من كل الانتقادات التي تسمع هنا وهناك، بمناسبة أو دونها. 

فرانسوا هولاند كان واضحا في خطابه أمام الكونغرس الفرنسي، الذي التأم في قصر فرساي الاثنين الماضي، حين أكد أن العودة إلى الحدود الوطنية ينذر بتفجير الكيان الأوروبي، لدفع شركائه الأوربيين لتحمل المسؤولية الجماعية في مواجهة ما أسماه "الإرهاب الجهادي". 

في أوج تدفق اللاجئين السوريين على الحدود الأوروبية، ارتفعت الأصوات منادية لإغلاقها في وجه "الغزو القادم من الشرق"، فارتفعت الأسوار على حدود أوروبا الشرقية بعد أن ظن الجميع أن مرحلة الأسوار انتهت مع سقوط حائط برلين. 

في فرنسا، لم تتوان نائبة من حزب الجمهوريين التابع لنيكولا ساركوزي في وصف فرنسا، خلال برنامج تلفزيوني شهر سبتمبر الماضي، بأنها "بلد يهودي – مسيحي. نحن ننتمي إلى عرق أبيض يستقبل الأشخاص الأجانب"، قبل أن تضيف "ليس لدي رغبة في أن تتحول فرنسا إلى بلد إسلامي، ولو تحقق ذلك، فإنها لن تكون فرنسا أبدا". 

النائبة نادين مورانو ليست وحيدة فيما تعتقده، بل هي نتاج توجه "عنصري" لا ينفك يتعاظم في الطبقة السياسية الفرنسية، بهدف مواجهة "اليمين المتطرف"، رغم ما يشكله ذلك من تغذية للنعرات وللأحقاد العنصرية ذاتها التي يروج لها متطرفو اليمين. 

ليس من المستغرب إذن أن يأتي بيان تبني داعش لهجمات الجمعة حاملا لتوعد فرنسا "الصليبية" بأنها ستبقى على "قائمة أهداف الدولة الإسلامية، وأن رائحة الموت لن تفارق أنوفهم ما داموا تصدروا ركب الحرب الصليبية، وتجرأوا على سب نبينا وضرب المسلمين بأرض الخلافة بطائراته".

بين الطائرة الروسية التي سقطت بسيناء، وتفجيرات برج البراجنة بالضاحية، ثم العمليات الست في باريس، يبدو أن العالم مقبل، كما سبق وكتبت في مقال بهذه الزاوية بعد العملية التي استهدفت سوسة التونسية، على التعايش مع العمليات الإرهابية، كما هو متعايش مع كل الحوادث والكوارث الطبيعية المميتة الأخرى، إذ لا حل يلوح في الأفق، بل يبدو المستقبل مفتوحا على عمليات أشد وأكثر إيلاما.

في الخطاب الذي ألقاه هولاند أمام الكونغرس الفرنسي (البرلمان ومجلس الشيوخ) إعلان واضح عن سيطرة "الصقور" على السياسة الفرنسية، كما كان الحال في الولايات المتحدة غداة تفجيرات البرجين، فحالة الطوارئ ستمدد استثناء لثلاثة شهور، ستعيش فيها فرنسا تحت وقع قانون يعود لعام 1955، ويعطي للسلكة التنفيذية الحق في: إعلان حظر التجوال، إغلاق الأماكن العامة، منع التجمعات والمظاهرات، استعادة الأسلحة الشخصية من مالكيها، الرقابة على الصحف والمنشورات والإذاعات والعروض السينمائية، والأهم من كل هذا المداهمات والاعتقالات الإدارية دون إذن قضائي، والطرد من البلد أو فرض الإقامة الجبرية على المتهمين.

 هولاند ذهب أبعد من ذلك، وطالب بقوانين على المقاس قبل نهاية الأسبوع، وبتحيين بنود قانون الطوارئ لتشمل وسائل التواصل والتكنولوجيات الحديثة، وتغليظ العقوبات المرتبطة بالجرائم الإرهابية. 
وأعلن عن الرغبة في تعديل الدستور الفرنسي ليتوافق مع ما يتطلبه الموقف من منح للقوات العمومية لمواجهة الإرهاب.

في فرنسا أربعة آلاف شخص مصنفون أمنيا على القائمة S، التي تعني كل شخص ظهرت عليه علامات التطرف والتشدد. 

في المبدأ، يخضع هؤلاء لرقابة مستمرة، لكن ساركوزي يطالب اليوم بأساور إلكترونية تمكن من مراقبة لحظية لتحركاتهم، دون أدنى احترام لحقوق الإنسان في بلد الأنوار. 

فبين الحرية والأمن، يبدو أن فرنسا اختارت القبضة الأمنية وتشديد الضربات الجوية على الرقة ونواحيها، في تطبيق حرفي لأدبيات اليمين المتطرف التي قد تحول فرنسا إلى "غوانتانامو" بحدود أوسع من السجن الأمريكي. 

ولأنها معنية بالموضوع، ومتورطة في حسابات انتخابات على الأبواب، لن تسائل الطبقة السياسية الفرنسية الدولة ومؤسساتها عن الفشل الذريع لمنظومتها الأمنية والمخابراتية، رغم دفعها بالجنود إلى الشوارع منذ تفجيرات يناير. 

كما لن تسائلها عن دواعي دخول فرنسا حروبا خارج الحدود بمالي والساحل الإفريقي وسوريا، وقبلها في ليبيا التي تحولت ل"دولة فاشلة" بعد أن سلمها نيكولا ساركوزي، الذي يطالب اليوم بتوزيع الأساور الإلكترونية على مواطنين فرنسيين، ومعه حلف شمال الأطلسي للمليشيات والتنظيمات المسلحة تحكمها دون رقيب. 

لن يطرح الفرنسيون الأسئلة الحقيقية، وسيكتفون بالحديث عن منظمة إرهابية عالمية تجند أبناء الضواحي الفرنسية والأوروبية المجاورة من المسلمين ضد بلدانهم الأم. 

قبل عشر سنوات كانت الضواحي الفرنسية تحترق دون أن تحرك الدولة ساكنا لتحسين الأوضاع المعيشية لأبنائها، واليوم يستفيق الفرنسيون على احتراق العاصمة باريس في دوائرها الراقية، وهي المدينة التي يسيرها اشتراكيون، بل قريبا جدا من رئيس الدولة الاشتراكي الذي كان مشغولا بمشاهدة مقابلة في كرة القدم، كادت تنتهي إلى مجزرة "على المباشر"..