من موقع الخضوع للاستعمار بمراحله، يمكن للمتأمل استعادة كل محطات القهر السياسي والعسكري التي مورست على المنطقة العربية خاصة، لإخضاعها بصفة دائمة لمنوال الإلحاق (التبعية)، وكان للكيان الصهيوني الدور الوظيفي الضروري والكافي لإنجاح الخطة عبر تفريق ممنهج لقوى المنطقة لكي تظل في حالة تناحر داخلي يبعدها عن الاهتمام بقضيته الحيوية، أي قضية الاستقلال السياسي والسيادة والرفاهة لشعوبها. وقد استنزف منوال التبعية حتى الثمالة بما فتح الباب على ثورة عربية أخرى سميناها
الربيع العربي آملين أن تفتح باب التغيير على مصراعيه. لكن بعد خمس سنوات من الاضطراب يحق للمرء أن يعيد النظر في أسباب الفشل ويبحث عن مجددات الأمل.
معركة الاستقلال مستمرة
من مسببات الأمل أن يوضع الربيع العربي في هذا سياق التحرر الوطني والقومي. فهو حركة أخرى تسعى إلى الاستقلال وبناء السيادة الوطنية قطريا وقوميا وتحقيق التنمية عبر تحقيق
الديمقراطية السياسية والاجتماعية. وهذا الإمكان رغم
الثورة المضادة لم ينته بل ربما يمكن للمتفائلين أن يروا موجة مضادة للمضادة. تتمثل في فشل المضادة في استعادة قوتها وجبروتها. لقد كسر الربيع العربي (مهما كنا متشائمين) قدرة النظام القديم على لحم عناصره من جديد والعودة بقوة وباستعمال نفس الوسائل والأساليب ليحكم كما حكم قبل 17 ديسمبر 2010. إننا نعاين فشل العسكر المصري في تحقيق أهدافه المعلنة كما نعاين فشل حزب النداء في تحقيق برنامجه. إن الطريق لا يزال مفتوحا للإجهاز على الثورة المضادة خاصة أن المراهنين عليها خارجيا يفتقدون بحكم ظروفهم الخاصة (انهيار أسعار النفط والتهديد الإرهابي الذي يمس المركز الأوروبي) تمويل الثورة المضادة فالاستقلال يتحقق بإيقاع بطيء وعسير لكنه يتحول إلى وعي باستحالة العودة فيخلق الاستعداد لتقبل احتمالات التغيير.. ما يطرح سؤالا راهنيا مهما. هل يمكن أن تمر الثورة من جديد عبر صدوع المنظومة القديمة؟
عودة إلى المسألة الوطنية أولا
بعد ملاحظات كثيرة عن سلوك مكونات المنظومة القديمة السياسي يمكن القول أن المسألة الوطنية ليست محل أجماع بين كل المكونات. وأعني هنا الحرص على تحقيق الاستقلال وتجسيده على الأرض عبر مؤسسات فاعلة. فقد تبين أن كثيرا من الشخصيات والأحزاب والمنظمات ليست أكثر من أذرع لأجهزة أجنبية تعمل على كسر مشروع التحرر الوطني من أجل تحقيق أهداف شخصية أو قطاعية أو أيديولوجية. ويعتبر وجود الإسلام السياسي المنظم والفاعل عقدة في منشار الكثيرين. ففكرة إلغائه تحدد سلوك الكثيرين. دون اعتبار معطيات تاريخية مهمة أن هذا المكون غير قابل للإلغاء بل لعله ينتعش بالمنع أكثر مما ينتعش بالتعاون معه. فمن أجل إلغاء هذا المكون السياسي والاجتماعي الذي استفاد بسرعة (بحكم قدرته على التنظم) من أول فرص الديمقراطية الانتخابية. وقد رأينا سياسيين يستعينون بدول أجنبية لكسر المسار الديمقراطي بإقصاء الإسلاميين إلى حدِّ الخيانة الموصوفة. وقد جعل ذلك تيارات الإسلام السياسي بدورها تتحالف مع دول أجنبية لها أجنداتها الخاصة للاحتماء من الإقصاء. لذلك فإن على تحقيق الاستقلال يجب أن يستعيد السؤال/ المعيار الوطني. سنحتاج تنسيب الخطاب العاطفي حول الوطن. فالوطن غنيمة وما كل القوى التي تعلن انتماءها للثورة متفقة على معنى الوطن بصيغة أدق ليس هناك اتفاق على ما نريد أن نفعل بالوطن؟
مسار كشف التناقضات الاجتماعية
نعتقد أن خطوة نقدية هامة تبدأ من كشف التناقضات الداخلية. ففي الحالة التونسية وهي حالة دالة على البقية إلى حد كبير ومنذ اعتصام القصبة 2 تبين أن هناك اتفاق ضمني بين فاعلين مختلفين على عدم نقض بنيان النظام القائم لمنع إعادة تأسيسه على قواعد جديدة. فرغم أن إعلان مطلب التأسيس كان جماعيا للفاعلين بالقصبة الأولى والثانية . لكن سرعان ما تم الالتفاف عليه بهيئة تحقيق أهداف الثورة من غالبية متضررة من الثورة. فتصدر المشهد أصحاب الحل القانوني ضمن إيديولوجيا الحفاظ على الدولة في خلط منهجي بين الدولة والنظام.
وقد أفلحت الهيئة في استبدال مطلب التأسيس الجذري بمسار انتخابي متدرج وقيل للناس إنه المسار الأقل خطرا على الدولة ولكن من كان فعلا في وضعية خطرة إذا انتقض بنيان النظام؟ لقد كان الالتفاف جماعيا وصُوِّر الأمر كنوع من الذكاء التونسي الاستثنائي الذي يتقدم بدون دم. ولنفهم بعض ما جرى. لا بد من إعادة قراءة التناقضات القائمة وهي اجتماعية بالأساس. تنكشف لنا ثلاث شرائح اجتماعية كبرى ليست متفقة على التأسيس الجذري المفضي إلى الاستقلال.
1. الشريحة الأولى: هي الأوسع عددا والأهش تنظيما وهي شريحة الرثاثة الاجتماعية (مفقري الهامش الحضري والريفي) تتركز طموحاتها على ضمان العيش (دخل مستقر ومسكن وخدمات صحية قريبة وفي متناول الأيدي وهي شريحة راغبة في التغيير.
2. الشريحة الثانية هي الشريحة الوسطى (الموظفين والجامعيين والمهن الصغرى واللاشكلية) وهي تعيش بطموحها أكثر مما تعيش بإمكانياتها الفعلية. وهي شريحة تفكر بشكل فرداني.
3. الشريحة الثالثة هي الشريحة الأقل عددا والمالكة للقوة (المال والسلطة) يمكن نعتها بالبرجوازية التي أسندت النظام دوما وحكمت بأساليبه وأدواته وهي شريحة محافظة رغم ثقافتها الحداثية.
الطبقة الوسطى مفسدة حساء الثورات الشعبية
من هو ساكن الطبقة الوسطى التونسية؟ هناك صعوبة حقيقية في تحديد معالم هذه الشريحة الاجتماعية؟ لكن نضع ضمنها الموظف التونسي والجامعي والطبيب والصيدلاني وصاحب المتجر والمهرب أيضا. إنه سليل المهن القائمة على الدبلوم وعلى رأس المال العائلي الصغير والمتوسط. وعلى مهن الصدفة ذات المردود السريع الخارج عن كل مراقبة قانونية. ما مصلحة هذه الشرائح في التغيير عبر إعادة التأسيس؟ نظريا فإن هذه الشرائح تستفيد من التغيير لأنه يمنحها فرصا أفضل للتموقع الاجتماعي لكن حساباتها الفردانية تمنعها من خوض مغامرة التغيير الجماعي وتحمل كلفته المرحلية.
نذكر هنا بالنظرية التي أسندت مخططات الإصلاح الهيكلي منذ الثمانيات (الريقانية والتاتشرية) إلى أن تمكين الطبقة الوسطى يؤدي آليا إلى إنتاج الديمقراطية. توسيع الشريحة المتوسطة يفرض الحرية والديمقراطية ويحدَّ من الفقر ومن غلواء رأس المال. أي تبريد الصراعات الاجتماعية ومنع الصراع الطبقي المخرب للمجتمعات نتيجة الإصلاح الهيكلي. وقد قطفت هذه الطبقات في مرحلة محددة نتيجة الإصلاح الهيكلي واتسعت بما يكفي لحماية النظام السياسي والاجتماعي القائم على تحرير السوق وتقليص تدخل الدولة المكلف في الاجتماعي.(في تونس كانت عشرية 1990-2000 هي عشرية توسيع الشريحة الوسطى).
وقبل الثورة كانت هذه الشريحة قد بدأت تتآكل من أسفل وتتقلص نتيجة لعجز الإصلاح الهيكلي على أداء مهمته في إنتاج الفرص واتضح أنها هلعة على مكاسبها القليلة والهشة. ورغم المكون الثقافي والعلمي لأفرادها (النخبة) إلا أن الوعي باستحالة الاستمرار في وضع المستفيد لم يقترن بفكرة التغيير الجذري. لذلك اغتنمت الثورة لفرض مطالبها المادية لتخرج كأكبر مستفيد منها (زيادات في أجورها وإعفاءاتها الضريبية وحفظها شبكات المصالح التي نسجتها في جسد النظام والدولة). لقد انحازت لطموحها الفئوي لا لمشروع فكري تأسيسي ففردانيتها بوأتها مكانتها الوسطى فلم تر وطنا عادلا يشمل الجميع.
هل يمكن العمل مع الشرائح الوسطى لإعادة إطلاق مسار التغيير؟
هذا أحد أهم الأسئلة التي يجب أن يطرحها المؤمنون بالتغيير، والتي تفتح على
مراجعات نقدية لمسار الربيع العربي آنا ومستقبلا. أخذا بعين الاعتبار الروح البراغماتية لهذه الشريحة. لكن أي استثمار سياسي فيها يجب أن يحذر براغماتيها (الانتهازية) ويخضع كل تعاون إلى معيار الانتماء الوطني والانتماء للمشروع الاجتماعي الذي قامت من أجله الثورة. أمّا الخطوة الثانية الأساسية فهي إخراج الخطاب من الصراع الهووي الذي ترتاح فيه هذه الفئات (اختصاص النخب ومتعتها) إلى وضع المسألة الاجتماعية كقاعدة للتحالفات السياسية. إنه إمكان عسير ولكنه ضروري ومنه تكون المراجعات والتأسيس. فما لم نبتكر طريقا مختلفة عن التجربة الغربية لتحقيق الديمقراطية الاجتماعية فإن قاعدة التحالف على الأساس الاجتماعي تظل هي الطريق الأقل وهما للوصول.