ثلاث جولات من المفاوضات عقدت حتى اليوم في
فيينا وذلك بهدف إيجاد تسوية سياسية ترضي الأطراف الفاعلة كافة، وبالطبع عدا الشعب السوري، حيث عقدت آخر هذه الجولات بتاريخ الرابع عشر من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر في فيينا، وكانت موسعة فشملت الأطراف المنخرطة كافة في الشأن السوري، في حين أنه سبقتها جولتا مفاوضات، اقتصرت الأولى على اللاعبين الأربعة الكبار، تلتها جولة ثانية موسعة ضمت باقي الأطراف الدولية والإقليمية المؤثرة في الشأن السوري، كبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيران والإمارات ومصر وقطر والعراق والأردن ولبنان، مع حضور شكلي للاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة اللذين غالبا ما يلعبا أدوارا متممة للدور الأمريكي.
الجولة الأولى من المفاوضات تم استدعاء
الأسد إلى موسكو التي تلت عليه لائحة الأوامر والنواهي الروسية، لينتقل بعدها الأربعة الكبار أمريكا وروسيا وتركيا والسعودية إلى فيينا حيث عقدت العديد من الاجتماعات الماراثونية مثنى وثلاث ورباع، توجت برسم خطوط عريضة لم يعلن عنها صراحة، لكنها تمثلت في موافقة الأطراف المتحاورة على نظام الدولة العلمانية والحفاظ على مؤسسات الأمن والجيش وإقرار دستور جديد والقبول بمبدأ فترة انتقالية قصيرة مدتها عام ونصف، يمكن أن تتوج بإزاحة الأسد عن واجهة الأحداث، لتقوم الولايات المتحدة بعدها بعملية إعادة إنتاج لغرفة عمليات بركان الفرات من خلال تغيير اسمها إلى جيش
سوريا الديمقراطي ومده بالسلاح والعتاد الذي ألقي من الجو.
الجولة الثانية تم فيها جمع بقية الأطراف على طاولة المباحثات، بحيث تم توزيع الأدوار والمهام المطلوبة من كل طرف، خاصة فيما يتعلق بمسألة السيطرة على الجماعات والفصائل والمليشيات المسلحة، واختيار المناسب منها لتشارك الحكم مع نظام الأسد، ليعقد بعدها بأيام، وبتنسيق روسي عربي، اجتماع لبعض قيادات الفصائل المسلحة في مصر نفاه البعض وأكده البعض وسكت عنه آخرون، حيث تبين من التسريبات أن موضوع الاجتماع تمحور حول إمكانية جمع فصائل المعارضة الموافقة على
الحل السياسي ضمن مجلس عسكري موحد يتم تنقيحه وتلقيحه ببعض الضباط الذين لا زالوا على رأس عملهم في منظومة الحكم الأسدي إضافة لبعض المنشقين.
على الأرض، وبالتوازي مع الحراك المسلح، ستمرت عملية كسر العظم على الجبهات والمحاور كافة، وذلك في محاولة من الجميع تسجيل نقاط تقوي موقفهم في الجولات القادمة من المفاوضات التي لم يعد هناك فاصل زمني كبير يفصل بين جولاتها، وهو ما يظهر مدى حرص الأطراف كافة على إيجاد تسوية سياسية وبأي ثمن ممكن، وذلك منعا لأي سقوط مفاجئ لمنظومة الحكم الأسدي أو حصول تمدد مفاجئ للجماعات الإسلامية الجهادية يتيح لها فرض نفسها على مزيد من الأرض، ما قد يخلط الأوراق.
تعثر قوات الأسد المدعومة بمليشيات شيعية وخبراء وقادة إيرانيين على جبهات إدلب - حماة - اللاذقية – حلب، وفشل الحملة الجوية الروسية على مدى ثلاثة أسابيع، عزز مخاوف روسيا من التورط في المستنقع السوري ودفعها للتشبث بمفاوضات فيينا وقبولها مبدأ تنحي الأسد خلال سنة ونصف، رغم أن بعض العرب قد تكفل بدفع تكاليف ما تلقيه طائرات بوتين المقدسة من حمم على رؤوس السوريين العزل، وهو ما أغضب إيران التي تعتبر نفسها اللاعب الأول على الساحة السورية لتطلق سلسلة تصريحات تمثلت في محورين:
الأول: تصريحات مبطنة ضد الروس اعتبرت أن التدخل الإيراني في سوريا كان خدمة للروس، وهو ما يطرح أكثر من علامة استفهام حول التنسيق الروسي - الإيراني لتدخل إيران ومليشياتها في سوريا.
الثاني: تمثل في رفض إيران لمبدأ تنحي الأسد، لأنه وباختصار يعني نهاية المشروع الصفوي في سوريا، إذ لا يمكن لأي نظام حكم جديد أيا كانت طبيعته؛ أن يحمي أو يغطي على التواجد الإيراني، ولا أن يضمن المصالح الإيرانية في سوريا.
الخلاف الروسي الإيراني جاء على خلفية قبول روسيا بمبدأ تنحي الأسد خلال فترة انتقالية قصيرة، وإدراك إيران لحقيقة أن دورها سينتهي فور تنحي الأسد، فكانت التصريحات الإيرانية المستفزة للروس والمدعومة بتصريحات للمقداد والزعبي عن عدم القبول بأي فترة انتقالية، حيث رد الروس بدورهم على هذه التصريحات فعلا لا قولا، وذلك بخرقهم لهدنة الزبداني - الفوعة - كفريا التي أنجزتها إيران، وقصفهم لبلدات شملتها الهدنة في ريف إدلب، ما دفع جيش الفتح للرد على هذا الخرق بقصف بلدات كفريا والفوعة، لتهدأ بعدها الأصوات والمماحكات الإعلامية.
الجولة الثالثة: وعقدت يوم السبت الموافق للرابع عشر من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، حيث حضر الجميع وفي جعبة كل منهم جردة حساب لما تم إنجازه خلال الأيام التي تلت "فيينا 2" الذي نجح في وضع الخطوط العريضة للتسوية السياسية التي يرغبون بها، ولم يبق إلا حسم مسألة فصائل المعارضة الموافقة على التسوية السياسية، وهو ما يفسر توافق التصريحات الإيرانية الروسية البريطانية التي تحدثت عن مسألة تحديد الفصائل الإرهابية والتي، وبكل تأكيد، لن تقتصر على الدولة والنصرة بل ستضم الرافضين كافة لهذه التسوية.
انفض الاجتماع دون التوافق على جدول زمني ينهي حكم الأسد، ليس هذا وحسب، بل إن التصريحات لم تتطرق من قريب أو بعيد، وهنا يجب علينا عدم إغفال هجمات باريس التي قوّت ودعمت موقف المعسكر الرافض لتنحي الأسد، والبدء بعملية سياسية نعلم جميعنا أنها لن تنجح في حل الأزمة لكنها ومع ذلك باتت في حكم المنتهية نتيجة لهذه الهجمات التي خلطت الأوراق حتى أن وزير خارجية فرنسا فابيوس صرح علنا بأنه لا مانع من التعاوف مع نظام الأسد واستخدام قواته في الحرب على تنظيم الدولة.
لعل أهم نتائج "فيينا 3" تمثلت في مسألة تعريف الفصائل الإرهابية، وتكليف الأردن بإعداد قائمة بهذه الجماعات، ليطير بعدها علي مملوك إلى الأردن، وعلى ما يبدو، بات نقطة الوصل والتواصل مع نظام الأسد، حيث لا زال يحتفظ بقنوات اتصال وعلى مستوى عال مع الأردن.
السعودية بدورها تكفلت بلم شمل المعارضتين السياسية والمسلحة في منتصف الشهر الجاري، فوجهت 120 دعوة لفصائل وجهات سورية تعتقد أنها يمكن أن تنخرط في التسوية السياسية التي سيتم وضع الرافضين لها في خانة الفصائل الإرهابية، وهو ما يطرح أكثر من علامة استفهام حول طبيعة الحل السياسي المنوي فرضه على السوريين، خاصة وأن المعلومات المسربة تشير إلى أن نظام الأسد سيكون جزءا من هذا الحل.
حتى في ظل التفاهمات التي تم التوصل إليها والتي لم يعلن عنها، فإن مسألة حسم الجسم العسكري للنظام المنشود لن تكون سهلة بحال من الأحوال، فمع اختلاف الولاءات والأجندات التي تتنازعها عشر دول مؤثرة ومنخرطة في الشأن السوري، إضافة إلى غرفتي عمليات هما الموك والموم، وفصائل أخرى تم إستبعادها وأخرى قيد التشكيل وثالثة في حالة سبات شتوي، فإن المسألة تبدو غاية في التعقيد، فالشيطان غالبا ما يكمن في التفاصيل.
من جنيف 1 و2 إلى فيينا 1 و2 و3، ولاحقا نيويورك 1 التي ستكون هي الوجهة الجديدة للأطراف الدولية المنخرطة في الشأن السوري، لم تستطع كل هذه الاجتماعات والمؤتمرات أن تصل إلى حل يلبي الحد الأدنى من مطالب الشعب السوري، ولا أن توقف نزيف الدم والدمار والتهجير الممنهجين، فكل ما حصل عليه الشعب السوري، هو المزيد من التسويف والمماطلة التي أتاحت للمجرم الاستمرار في إجرامه.
ختاما، هناك جملة عوامل مرتبطة بالحل السياسي ولا يمكن استبعادها، فإنجاز حل توافق عليه بعض الأطراف السورية لا يعني أن المشاكل قد حلت وأن العقبات قد ذللت، فهناك الأبعاد الطائفية والإثنية والحزبية التي يجب أخذها جميعا بعين الاعتبار، ناهيكم عن أن التسوية السياسية المفروضة تعني إنشاء جبهة موحدة تضم ما تبقى من شراذم جيش ومليشيات الأسد مع الفصائل المعتدلة المحسوبة على الثورة والمعارضة، مهمتها قتال التنظيمات الجهادية ورافضي الحل السياسي وإقامة الدولة العلمانية، وهو ما قد يعمل على لم شمل الرافضين للحل السياسي في جبهة واحدة تستطيع قلب الطاولة على المؤتمرين في فيينا ولاحقا في نيويورك؛ التي وعلى ما يبدو ستكون وجهة المؤتمرين المقبلة.