يتفق العقلاء على أنَّ
داعش يمثل حالة مرضيَّة ابتليت بها المنطقة العربية عموما، وسورية والعراق خصوصا، وهي نتاج أمراض عدة تعاني منها المجتمعات العربية سواء على الصعيد السياسي أو الديني أو الاجتماعي أو الاقتصادي.
ومما يُؤسف له أنَّ المنطقة تدفع ثمن تبعات الحالة المرضية، فما أصاب باريس وغيرها لا شيء إذا ما قورن بالفاتورة التي تدفعها منطقتنا، ولا تكمن مأساة المنطقة في فاتورة المرض وآلامه فحسب إنما تكمن في سعي الدول العظمى لتحويل هذه الحالة المرضيّة الطارئة إلى داء عضال لا يمكن الشفاء منه، فما زال الغرب يقدم كل يوم مخططات واستراتيجيات عبثية تساعد على انتشار المرض لا القضاء عليه.
ولا نتبنى هنا نظرية المؤامرة، بل نأخذ توجه الغرب بحسن نيّة ونسلط الضوء على أخطائه القاتلة، فتنظيم داعش نشأ وتمدد –كما أسلفنا- نتيجة ظروف موضوعية -ليس الآن أوان سردها- وفّرت بيئة خصبة. وبدلاً من معالجة الظروف وتجفيف البيئة استثمرت القوى الدوليّة المتصارعة في
سوريا نمو تنظيم داعش بدعوى محاربة الإرهاب لتحقيق مآربها، وكان في مقدمة المستثمرين النظامين السوري والإيراني، ويشهد لذلك تطورات الأحداث في سوريا والعراق، وعليه تبدو المعالجة الحالية فاشلة ما دامت تبتعد عن معالجة مسببات المرض.
وأثبتت التجربة أنَّ النظام السوري أكبرُ المستفيدين والرابحين من تمدد تنظيم الدولة، حيث قدمَ التنظيم – درى أو لم يدر – خدمات جليلة للنظام السوري، وأبرز هذه الخدمات سيطرته على مناطق الثوار دون النظام، وقتله واغتياله وخطفه لرموز الثورة من مدنيين وعسكريين، وكان معينا للنظام في تحقيق تقدم على الثوار في مناطق عدة، غير أنَّ الفائدة العظمى تجلت بوصم الثورة السورية بالإرهاب، فتمّ الخلط بين الثوار الأحرار وبين الإرهاب الداعشي عن عمد وسوء نيّة لوأد ثورة السوريين، وما التدخل الروسي الفج إلا دليل على ذلك، فلا يسستهدف الروس تنظيم الدولة إلا بـ 5% من الضربات الجوية، والبقية توجه للثوار الأيتام.
وقد حذر هؤلاء الثوار الأيتام مبكرا من أدلجة الثورة، وتحويلها من ثورة شعبية تحمل مطالب ثورية وطنية عادلة جامعة إلى صراع طائفي بغيض تتزعمه قوى متطرفة من هذا الطرف أو ذاك.
وبدلاً من دعم الثورة العادلة قدّم الغرب الهدية الأولى للتطرف، وفتح الباب موارباً بداية قبل أن يفتحه –مؤخراً- على مصراعيه، إذْ غضَّ الغرب الطرف عن ممارسات المليشيات الحاقدة فضلا عن مجازر النظام وقمعه الدموي لثورة شعب طالب بالحرية والكرامة، فكان طبيعيا أن تلجأ فئة لمواجهة التطرف بذريعة أنَّ الحديد لا يفله إلا الحديد.
وتجاهل الغرب التطرف الشيعي الإيراني الذي كان سببا للتطرف السني المتمثل بداعش، وركز على التطرف السني ولاسيما بعد أن اكتوى بناره، وغاب عن الغرب أنَّ كلَّ تطرف يغذي الآخر ويمده بأسباب البقاء، وأصبحت نظرية إفناء الآخر سببا رئيسا لبقاء الآخر.
ولعبت الولايات المتحدة دورا وما زالت في وصول المنطقة لهذا المنزلق الخطر عندما تجاهلت مدّ النظام بالسلاح والخبراء، ومنعت الدول الداعمة للثورة من تسليح الثوار بسلاح نوعي يغير المعادلة ضد النظام وداعش معا.
وتستمر جرعات دعم التطرف، إذ قدّم الغرب مبررا للتطرف عندما اجتمع في فيينا وتجاهل مصير الأسد، وقرر هُوية الدولة السورية المستقبلية، هُوية تتصادم مع تاريخ السوريين الديني والقومي، هُوية علمانيّة مشوّهة اتخذها النظام على مدى عقود ذريعة لقمع أي حراك وطني حر.
ركز المؤتمر على الهوية العلمانية للدولة، وحقوق الأقليات، وتجاهل الأكثرية الساحقة التي ينبغي أن تحدد هوية الوطن دون تجاهل الأقليات وحقوقهم، فهويات الأوطان لا تقررها مؤتمرات، ولا ترسمها أقليات. لقد خطفَ التطرفُ هذا المطب الغربي ليثبت أنَّ إرهابه مقدس هدفه الحفاظ على الأمة.
وصبّ الغرب مؤخرا النار على الزيت عندما طرح إمكانية بقاء الأسد، والتحالف معه ضد الإرهاب متناسيا ومتجاهلاً أنَّ الأسد –باعترافهم- سبب رئيس للإرهاب إن لم نقل هو الإرهاب ذاته.
فقدّم الغرب وما يزال مسوغات وجود تنظيم داعش باعتباره المُدافع الوحيد عن العرب السنّة المسحوقين، وبدا أنَّ داعش نجح في تحقيق أهدافه من وراء
هجمات باريس، إذ بدا الغرب منفعلا فاقداً للبوصلة إن أحسنا الظن أم أنَّ الغرب حقيقة استثمر هجمات باريس من أجل دعم التطرف؟!