كتاب عربي 21

السياحة الإيرانية في تونس

1300x600
لا يتعلق الأمر هنا فقط بالمبادرة الجديدة لوزارة السياحة التونسية وهي تعلن في نشوة المنتصر استقطاب تونس لآلاف السياح الإيرانيين سنويا بعد الصفعة الكبيرة التي نالتها الوزارة والوزيرة من مراكز القرار السياحية أوروبيا ورفضها دعم السياحة التونسية فتحولت الوحدات الفندقية في تونس إلى قفر ينعق فيه الغربان.

هذا القرار على خطورته لا يمثل إلا استكمالا للانحرافات التي أخذتها الثورة سعيا من الدولة العميقة إلى تحريك الهامش بقضايا لا تمت إلى المطالب الثورية بصلة بقدر ما تساهم في تشتيت التركيز الثوري وتمنع المطالب الكبرى من بلوغ منتهاها.

نعلم اليوم جيدا بعد انكشاف المشهد المشرقي بأن اللاعب الإيراني هو أكبر المستفيدين من فشل الربيع العربي بعد أن لعبت طهران في إفشاله دورا حاسما خاصة خلال الثورة السورية ووقوف فرق الموت التابعة لنظام "الملالي" إلى جانب "شبيحة" الأسد في وجه الثورة السورية. 

فبعد سقوط بغداد بيد إيران وقبلها بيروت، هاهي دمشق تقع تحت قبضة الحرس الثوري وهاهي صنعاء تنازع مخالب إيران ممثلة في كتائب الحوثيين وبقايا قوات المخلوع صالح كما يصرح بذلك المسؤولون الإيرانيون في صلف إمبراطوري. 

الحرب في المنطقة المشرقية ليست بين الاستبداد والشعوب فهذه المعركة قد حسمت تقريبا عندما تهاوى الطغاة واحدا بعد واحد منذ أن أشعل "البوعزيزي" ولاعته الشهيرة، بل هي اليوم بين إرادة الحياة عند الشعوب وبين قوى إمبراطورية متمددة وعلى رأسها الإمبراطورية الفارسية التي انكشف زيف ممانعتها بعد الصفقة الأخيرة التي أبرمتها مع "الشيطان الأكبر" مقابل خدامات خاصة في المنطقة المشرقية لأرض العرب. 

الثورات العربية لم تكتف بفضح العلاقات الخفية بين الفاعل الإيراني وبين القوى الاستعمارية الحاضرة على الأرض العربية بل كشفت خاصة حجم التغلغل الإيراني داخل النسيج الأمني والعسكري والسياسي العربي لا باعتباره قوة مادية مباشرة فقط بل كذلك باعتباره قوة ناعمة تمهد الطريق للقوى الأخرى. 

تونس مهد الربيع العربي تتميز عن غيرها من الدول العربية بتناسق نسيجها الاجتماعي وغياب الطوائف والمجموعات العقائدية فيها وهو ما سمح لها خلال تاريخها المعاصر بتجاوز الكثير من الأزمات والمحن التي سقطت فيها غيرها من الدول الأخرى. 

لكنها عرفت خلال المدة الأخيرة بعد الثورة اختراقا ثقافيا واستخباراتيا إيرانيا لا يخفى على أبسط الملاحظين في الداخل التونسي وهو اختراق لم يفاجئ أحدا لكن المفاجأة كانت في غياب ردود الفعل الرسمية وفي غياب ردود فعل النخب الثقافية بمختلف مشاربها خاصة العلمانية منها والتي عودتنا بشراسة مواقفها من الموجات الدينية. 

فباستثناء المغرب الذي حسم خلال السنوات الفارطة مسألة التمدد الثقافي الإيراني عبر عملية تصفية شاملة لبؤر الحضور الصفوي فيها، فإن الجزائر وتونس تمثلان اليوم مرمى الحملات الإيرانية الأخيرة. 

السياحة الإيرانية ليست في الحقيقة غير غطاء شفاف لحملات التشييع التي لا تنفك الجمهورية الخمينية عن تنظيمها داخل دول الربيع العربي من أجل استثمار التغيرات التي أحدثتها الثورات ومن أجل ملء الفراغات التي سببتها التغيرات الاجتماعية والسياسية المفاجئة. 

مراكز التشيع انتشرت في الكثير من المدن التونسية ذات الرمزية الثقافية والحضارية البارزة مثل مدينة "القيروان" أو مدينة "قابس" أو منطقة الجريد وتحديدا مدينة "قبلي"، وليست القرارات الأخيرة لوزارة السياحية إلا تطبيعا مع المشروع الإيراني في شمال إفريقيا الذي انكشف عمقه مع نسمات الربيع العربي. 

المشروع الإيراني يجد صداه في ما سبقه من المشاريع التجفيفية التي عرفتها تونس منذ الاستعمار الفرنسي المباشر للبلاد التونسية. فلم يُعرف "بن علي" بشيء قدر ما اشتهر بمشروع "تجفيف الينابيع" حيث مارس الرجل على الدولة والشعب كل صنوف التزييف والتصحير ومحاربة ركائز الهوية من محاربة للتدين ومنع اللغة العربية من أن تكون أساس الخطاب الرسمي للدولة والمجتمع. 

"بن علي" للأمانة لم يكن صاحب المشروع وهو لا يدّعي ذلك بل يستكمل ما بدأه سلفه " المجاهد الأكبر" أو الرئيس التونسي الأول الحبيب بورقيبة في المهمة التي كان مكلفا بها والتي تقوم على فصل تونس عن حاضنتها العربية الإسلامية وجعلها مخبرا للحداثة المزيفة والعلمانية المغشوشة التي انكشفت بعد الثورة عن واحد من أشد الأنظمة الاستبدادية ظلامية وقمعا. 

هذه الصحراء التي خلفها بن علي ونظام بورقيبة هي التي يستثمر فيها الإيرانيون اليوم تحت غطاء السياحة في الوقت الذي يعلم فيه الجميع قابلية المجتمعات الهشة مثل المجتمع التونسي للاختراق مع العلم بحجم الأموال التي يصرفها الإيرانيون على مشاريعهم السياسية والاستخبارية ذات الغطاء العقائدي والديني. 

النخب العربية كلها وليست التونسية فقط مسكونة بأوجاع الهزائم في خطابها وفي رؤاها وفي مشاريعها، وهذا هو الخرق الذي يعبر منه الخطاب الطائفي الإيراني تحت مسميات المقاومة والممانعة ونصرة آل البيت وتحرير فلسطين، في حين تنقل لنا الشواهد من بلاد الشام حجم الجرائم التي ارتكبتها العصابات الصفويّة في حق أهل سوريا والعراق واليمن ولبنان.