كتب محمد السعيد إدريس: كشفت زيارة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري للكيان الصهيوني في ذروة الاهتمام الأمريكي بالحرب على الإرهاب في الشرق الأوسط، كما كشفت ردود الفعل "الإسرائيلية" على هذه الزيارة عن مجموعة من الحقائق المهمة، التي يجب أخذها في الاعتبار بالنسبة لمستقبل القضية الفلسطينية من وجهتي النظر "الإسرائيلية والأمريكية" وأفق الحل الممكن أو المحتمل.
أول هذه الحقائق أن الولايات المتحدة لا زالت حريصة، من ناحية الشكل على الأقل، في الاستمرار بالدعوة إلى "حل الدولتين" أي إقامة دولة فلسطينية إلى جانب الكيان الصهيوني. وأن التمسك الأمريكي بحل الدولتين هذا دافعه ليس الإيمان بحقوق الشعب الفلسطيني في حق تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة، ولا حتى مجاملة الدول العربية الصديقة لها، ولكن دافعه هو الخوف على مستقبل "إسرائيل" على نحو ما حرص كيري على توضيحه أمام معهد بروكنجز الأمريكي مساء السبت (5/12/2015) بعد أيام من عودته من "إسرائيل". فقد لفت إلى "خطورة استمرار بناء المستوطنات على إمكانية تنفيذ حل الدولتين"، وقال إن "استمرار نمو المستوطنات يثير تساؤلات معقولة عن نية "إسرائيل"، على المدى البعيد، ويجعل عملية الانفصال عن الفلسطينيين أكثر صعوبة".
كان كيري يحذر من أن فشل حل الدولتين سوف يفرض حتما حل "الدولة الواحدة ثنائية القومية"، وهو أمر خطر بالنسبة لمستقبل "إسرائيل" كدولة يهودية، آخذا في الاعتبار التفوق الفلسطيني في النمو الديمغرافي.
هذا يؤكد أن دفاع كيري عن "حل الدولتين" هو دفاع عن مستقبل "إسرائيل" كدولة يهودية، أي دفاع عن أهم مطالب حكومة بنيامين نتنياهو. لكنه أيضا زاد على ذلك بتحذيره من خطورة اتجاه السلطة الفلسطينية إلى "خيار الحل" بدافع من اليأس في مستقبل السلام، أمام سياسة التشدد "الإسرائيلي". فقد تساءل كيري في كلمته المشار إليها أمام معهد بروكنجز للأبحاث "هل "الإسرائيليون" مستعدون للعواقب التي سيجلبها هذا على أطفالهم وأحفادهم الذين سيخدمون في قوات الدفاع "الإسرائيلية"، عندما يؤدي الاحتكاك إلى المواجهة والعنف" في إشارة إلى المسؤولية التي على الحكومة "الإسرائيلية" تحملها بالضفة الغربية التي سيكون عليها إدارتها كسلطة احتلال عقب حل السلطة الفلسطينية.
لذلك أنهى كيري دعوته دفاعا عن "حل الدولتين" بقوله: "يجب أن يتم التعامل مع حل الدولتين كسياسة، وهو الغرض الأساسي، وليس كمجرد شعار أو جملة تلقى اعتباطا".
ثاني هذه الحقائق، أن قادة الكيان الصهيوني بكل تصنيفاتهم السياسية والأيديولوجية ليسوا أبدا مع "حل الدولتين"، وليسوا أبدا مع خيار حل "الدولة الواحدة ثنائية القومية" أي دولة واحدة يعيش فيها اليهود والعرب، ولكنهم، بعيدا عن كل عبارات الهروب وتجميل القبيح مع خيار "دولة واحدة لشعب واحد" أي الدولة الواحدة اليهودية من دون العرب. فالأرض كلها هي للشعب اليهودي وحده، من دون غيره، وما هو دون ذلك محض هروب وكسب للوقت أو جدولة للمطالب للوصول في نهاية الأمر إلى أن الأرض الممتدة من نهر الأردن إلى البحر المتوسط، هي كلها الدولة اليهودية للشعب اليهودي والوجود العربي في هذه الأرض هو "محض احتلال"، فالأرض هي أرض اليهود والعرب محتلون منذ أن دخلوها مع الإسلام، وحرب 1948 هي حرب تحرير مؤكدة المعاني.
بعد إلقاء كيري خطابه المذكور أسرع بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة "الإسرائيلية" بالرد عليه بعنف واستهزاء، حيث أكد أن "الحل الممكن للنزاع الفلسطيني -"الإسرائيلي"، يتمثل بإقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح تعترف بـ"إسرائيل"كدولة يهودية، وأن "إسرائيل" لن تكون أبدا دولة ثنائية القومية". أما أغلب وسائل الإعلام "الإسرائيلية" فقد استقبلت خطاب كيري بمزيج من السخرية والتوبيخ.
فقد سخر الكاتب يورام إتنغر في صحيفة ""إسرائيل" اليوم" الموالية لنتنياهو من تحذيرات جون كيري وقال، إن "كيري يحاول التنازل عن الجغرافيا من أجل الديموغرافيا استنادا إلى معطيات ديموغرافية مغلوطة. فهو يتجاهل جسر الهوة في الحل "الإسرائيلي" - العربي في أعقاب موجات الهجرة والتطور غير المسبوق والحداثة المتسارعة في الوسط العربي". ويرى هذا الكاتب أن النمو الديمغرافي يعمل الآن لصالح "الإسرائيليين" واليهود أكثر من العرب، ويؤكد أن التكاثر "الإسرائيلي" يتصاعد الآن إلى ما فوق 3 أولاد ويتراجع للعربي إلى ما دون 3 أولاد. وعلى عكس أقوال كيري، كما يزعم هذا الكاتب، فإن الوسط اليهودي في "إسرائيل" يتميز بالتفاؤل والوطنية والارتباط بالجذور والمسؤولية الوطنية، الأمر الذي يؤدي إلى ازدياد ديموغرافي استثنائي.
لكن أهم ما زعمه النائب في الكنيست موتي موجاب هو رؤيته للحل الأمثل للأزمة أو للقضية الفلسطينية خارج حل الدولتين، بل وخارج حل الدولة الواحدة ثنائية القومية المرفوضة بالمطلق. فحسب رؤيته "لم تكن هنا أبدا (يقصد أرض فلسطين) أي دولة فلسطينية، وإلى الأبد لن تقوم. ومسؤوليتنا في يهودا والسامرة (الصفة الغربية) كانت وستبقى لأمننا ولتعزيز الاستيطان في كل أرجاء "إسرائيل". إن جزءا من الرد على الإرهاب (الانتفاضات الفلسطينية) هو تأكيد أن عودتنا إلى يهودا والسامرة تمت لترسيخ سيطرتنا والبقاء فيها إلى الأبد".
هذه هي الحقيقة التي لا يريد العرب تصديقها. فهم داخل الكيان لا يتحدثون عن احتلال "إسرائيلي" للضفة الغربية، بل يتحدثون عن "عودة يهودية" إلى يهودا والسامرة، ويؤكدون أنها عودة إلى الأبد، أي إنهاء الوجود العربي في الضفة الغربية وبالأساس في القدس المحتلة، ما يعني كشف الغطاء عن وهم ما يسمى بـ "حل الدولتين" الذي يروج له الأمريكيون ويصدقه العرب وينتظرونه.
الحقيقة الثالثة مرتبطة بالحقيقة الثانية، وهي أن سياسة الاستيطان في الضفة الغربية في تصاعد وأنها أداة التهويد وفرض يهودية الضفة وغزة كجزء أساسي من أرض "إسرائيل"، وأن هذه السياسة يجري تنفيذها اعتمادا على الاستمرار في الترويج لحل الدولتين كغطاء لا بد منه لاستكمال مشروع الاستيطان والتهويد، وهذا ما أكده نفتالي بنيت زعيم حزب "البيت اليهودي" وزير التعليم المتطرف والمناوئ لنتنياهو بدعوته إلى فرض السيادة "الإسرائيلية"، في تجمع مستوطنات "غوش عتصيون" ومنع العرب في تلك المنطقة من حقوق الإقامة أو المواطنة، وزاد على ذلك بقوله: "إذا كانت غوش عتصيون ليست لنا فماذا نفعل نحن فيها، وإذا كانت لنا ينبغي أولا ضمها إلى "إسرائيل".
أما رابع هذه الحقائق، فهي أن كل هذا الهراء الأمريكي حول خديعة أو أكذوبة ما يسمونه بـ "حل الدولتين" و"الإسرائيلي" حول الدولة الواحدة اليهودية للشعب الواحد اليهودي، هو نتيجة ومحصلة لاستمرار الانخداع الفلسطيني بوهم الحل السلمي، واستمرار التنسيق الأمني مع الاحتلال الصهيوني، والأهم هو التآمر على أي فرصة للنهوض الشعبي والانتفاضة ضد الاحتلال.
فالسلطة ليست مع انتفاضة ثالثة، وهي شريكة في ترويج الوهم، كما أن الانسحاب العربي الرسمي وبعده الشعبي من التوحد مع القضية الفلسطينية كقضية عربية مركزية، هو من أعطى لـ "الإسرائيليين" فرصة التجرؤ على الدعوة إلى سياسة "دولة واحدة لشعب واحد".
أربع حقائق صارخة تنعى حل الدولتين وتفرض على الفلسطينيين والعرب الإجابة على السؤال الذي لا مهرب منه: أي مستقبل مع هذا الكيان الصهيوني المدعوم أمريكيا؟
(عن الخليج الإماراتية)