خرجت الجماهير
العربية منذ خمسة سنوات تنشد حريتها المفقودة، وتسعى لاسترجاع كرامتها المهدورة. كان مشهدا عجيبا في حينه؛ فـ"زين العابدين بن علي" اختفى عن الأنظار هاربا، و"الزعيم القدافي" عميد الزعماء العرب قُتل شر قتلة، والرئيس "حسني مبارك" قضى أياما من تقاعده خلف القضبان، والرئيس "علي عبد الله صالح" تنازل عن السلطة كرها..
إنها موجات تسونامي "الثورة" التي فاجأت الجميع؛ فمن النخبة العربية المذهولة من هول ما يجري وهي التي لطالما اتهمت الشعوب العربية بالتخلف والعجز والكسل والسلبية..، إلى أجهزة المخابرات المحلية والدولية المصدومة من جديد الساعات الحبلى بمفاجئات مباغتة..، فما من شهر يمرّ إلّا وثورة في هذا البلد أو ذاك.. والذهول سيد الموقف.
أيّد البعض في حينه "الثورة"، وجاملها البعض الآخر بابتسامة باردة خوفاً على نفسه منها، واستمر ذلك الحال إلى أن طرقت "الثورة" أبواب دمشق، فبدت كأنها ارتطمت بجلمود صخر؛ لا سيما عندما انقسم العرب والعالم بشأن مجريات التغيير القادم في سورية. الشعب السوري الكريم بطبعه، الخلوق بفطرته، لم يستسلم لممانعة النظام ولا لعنفه الدامي، فحمل السلاح بعد ستة أشهر من السلمية دفاعاً عن كرامته وحريته، فهو ليس بأقل من تلك الشعوب التي نالت حريتها "المتوهمة"، فكان قدره كالواقع بين المطرقة والسنديان؛ مطرقة النظام وسنديان التآمر الدولي على مطالب الحرية.
لمّا كانت السنة الأولى من عمر الثورة محفِّزة للشعوب وصادمة للأنظمة، كانت السنة الثانية كافية لأن تستعيد الأنظمة العربية والعواصم الدولية اتزانها حتى تأخذ بزمام المبادرة في مواجهة الحراك الجماهيري، فكان التركيز على عاصمتين مهمتين في مسار التاريخ والتغيير.. فكانتا: دمشق والقاهرة..
فكرة الحرية كانت من أخطر المتغيرات التي تواجهها الأنظمة العربية التقليدية الوراثية في غالبها، ملكية كانت أم جمهورية؛ فالحرية تعني رفض الوصاية وصناعة المستقبل بعقد اجتماعي جديد بعيداً عن الموروث السياسي الحاكم للمنطقة العربية منذ مائة سنة!!
شكّل هذا تهديدا داهما للعديد من الأنظمة العربية والدولية الراعية لها على حد سواء، فكانت الأولوية تدمير الروح المعنوية لشعوب المنطقة وتشويه فكرة الحرية المنشودة، عندما قامت واشنطن وأوروبا (بمساعدة أنظمة عربية) بالعمل في اتجاهين:
الاتجاه الأول: إغراق الشعب السوري في دمائه، وتدمير البلد من خلال المحافظة على معادلة لا غالب ولا مغلوب؛ فتحكّمت واشنطن بكميات ونوعية الأسلحة التي تصل لأيدي المعارضة السورية، لتحرمها من القدرة على حسم المعركة، كما ناورت مع النظام السوري لبقائه ضعيفاً مستنزفاً، ومن ثم استدعاء إيران وحزب الله لنجدة حليفهما النظام السوري برغبة أمريكية ـ إسرائيلية لاستنزاف ما كان يعرف بمحور الممانعة، وصولاً لتدخل روسيا، القوة الباحثة عن مكان في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية.
الحالة السورية، خلال سنواتها الخمس العجاف، مثّلت رسالة شديدة اللهجة للشعب السوري ولكل شعوب المنطقة مفادها أنكم لستم أهلاً للحرية، ولم تبلغوا سن الرشد بعد، وخير دليل على ذلك حالة التشرذم التي عليها قوى المعارضة، والشتات الذي جمعكم من تركيا حتى كندا..، وما عليكم إلا الترحم على نظام الوصاية الذي سيغدوا أمنية بعيدة المنال أمام جحيم الحرب الأهلية والإقليمية والدولية التي تصب نار جحيمها على رؤوسكم.
الاتجاه الثاني: عمَدت واشنطن بدهاء وتوافق مع قيادة الجيش المصري، وبعض الأنظمة العربية على الانحناء أمام عاصفة الثورة في مصر فاسحة المجال أمام الإسلاميين للوصول إلى رأس السلطة والتربع على عرش الدولة العميقة بفسادها وبيروقراطيتها.
ساعية في ذلك إلى زرع بذرة الخلاف بين الإسلاميين والتيارات اليسارية والوطنية الثورية الأخرى وكان لها ذلك، ومن ثم إفشال التجربة السياسية الثورية بإفشال تجربة الإسلاميين كبديل محتمل لحكم المنطقة من خلال إغرائهم (
الإخوان المسلمون) بالتفرد بالحكم أولاً، ومن ثم استنزافهم عبر الأخطبوط الخماسي الذي يسيطر على مصر (الجيش، والأجهزة الأمنية، والقضاء، والإعلام، ورجال الأعمال)، والإطاحة بهم كنتيجة حتمية للفشل، مما سيزرع الاحباط في نفوس المصريين، واليأس من التغيير ونيل الحرية.
وهنا نود الإشارة إلى ما كشفه الدكتور محمد البرادعي من أن المبعوث الأوروبي (برناردينو ليون) هو المخطط للانقلاب العسكري الذي تم ضد الرئيس المصري محمد مرسي..، وقال "ما حدث كان تماماً عكس ما وقّعت عليه، فقد وقعت على انتخابات رئاسية مبكرة، وعلى خروج مشرّف للرئيس مرسي، وللوصول لنهج شامل تكون جماعة الإخوان المسلمين والإسلاميين جزءاً منه".
وأضاف: "وقّعت على الخطة التي وضعها بالفعل (برناردينو ليون) الذي يحاول الآن أن يفعل الشيء نفسه في ليبيا، ولكن بعد ذلك كل هذا تم إلقاؤه من النافذة، وبدأ العنف، بحيث لم يعد هناك مكان لشخص مثلي، وليس هناك مجال سياسي" (البرادعي: برناردينو ليون هو مخطط الانقلاب على مرسي، صحيفة القدس العربي، لندن، 5 تموز/يوليو 2015).
ومما لا شك فيه أن فقر التجربة الإخوانية السياسية في الحكم، وحسن النوايا، قد أوقع بهم، فكانوا ضحية، واستُخدموا من حيث لا يحتسبون لانقلاب الطرف الآخر على الثورة المطالبة بالحرية.
في مقابل تشويه مطالب الشعوب بالحرية، وجعلها سببا لإراقة الدماء في المنطقة، سعت الولايات المتحدة الأمريكية، وبسياسة مقصودة، إلى إفساح المجال لإيران وحلفائها بالتمدد في المنطقة العربية عموماً، ليس استسلاما لطهران، ولكن رغبة من واشنطن بعلو الشأن الطائفي في المنطقة ذات الأغلبية السنية. ومما يعزز ذلك: الموقف الباهت لواشنطن إبّان سيطرة الحوثيين على صنعاء، ومن ثم تأييدها لعاصفة الحزم بقيادة السعودية، وكأنها تدفع باتجاه الاشتباك الطائفي الشيعي السني في المنطقة.
وفي ذات الاتجاه أيضا جاء تشكيل التحالف الإسلامي بقيادة السعودية من 34 دولة عربية وإسلامية سنية، لمواجهة "
الإرهاب" والتحالف الشيعي بقيادة طهران، وذلك على عين الولايات المتحدة التي نوه رئيسها أوباما أكثر من مرة بأهمية اضطلاع الدول العربية والسُنّة تحديداً بدور في سورية، وفي مواجهة الإرهاب، وتنظيم الدولة "داعش".
إذن، هناك سياسة أمريكية مؤداها خلق محاور إقليمية متعارضة أو متقاتلة فيما بينها على أساس طائفي يأخذ المنطقة بعيدا عن أصل الحكاية والحراك الجماهيري ذات البعد الإنساني الباحث عن الحرية، فالحروب
الطائفية الدموية يراد لها أن تكون عنواناً للمرحلة في الإقليم، كما استخدامها أداة للصراع الناشئ بين الحلف الأطلسي بقيادة واشنطن والدب الروسي الحالم بزعامة قيصرية تاريخية وعضوية. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن واشنطن (كما موسكو، وكما العديد من الدول الإقليمية بما فيها إيران الإسلامية) نجحت في التسويق لفكرة أن "الإرهاب" الإسلامي المتطرف، أو أن تنظيم الدولة "داعش" هو الخطر الماثل الواجب مواجهته ووضعه كأولوية على أجندة جميع الدول بما فيها المحور الشيعي والتحالف السني رغم اختلافهما على الملف السوري واليمني واللبناني..
وذلك بعيداً عن الإجابة عن السؤال: من هو المسؤول عن وجود وتمدد ظاهرة الإرهاب وتنظيم الدولة "داعش"؟!
يراد القول إن المشكلة ليست في النظام السوري، وليست في النظام المصري، وليست في الانظمة القائمة، إنما في الإرهاب الإسلامي المزاحم للحرية، الإرهاب الإسلامي الفضفاض و"اللَّبّيس" لأيّ تهمة يراد منها تحقيق أهداف سياسية محلية وإقليمية ودولية، تدفع ثمنها الشعوب العربية من حريتها التي خرجت من أجلها .. ذات يوم.
اللافت في الأمر أن التيارات الإسلامية في أغلبها أصبحت محلَّ اتهام بالإرهاب حتى ما يُعرف "بالمعتدلة" منها كحركة الإخوان المسلمين الموضوعة على أجندة الإرهاب لدى العديد من الأنظمة وخاصة العربية منها.
واللافت في الأمر أيضا أن المحور "الشيعي" والتحالف "السني" أصبحا تحت المظلة الروسية والأمريكية، من حيث القبول والتوجيه، إلى الدرجة التي أصبح فيها حزب الله ينشد الدعم الروسي، والمعارضة السورية تنشد الدعم الأمريكي، وكلاهما الروسي والأمريكي حلفاء للاحتلال الإسرائيلي!!