يحكى أن قوما في الزمن الأول أرادوا أن يعبروا من جزيرتهم التي اشتد فيها الظلم والقهر والفساد والجهل إلى جزيرة أخرى من جزائر البحر، جزيرة يشع فيها نور الحياة والحرية والعدالة والتقدم، فعمد كل منهم إلى سقائه "قربته" فنفخها وأحكم نفخها، إلا واحدا أقلّ النفخ وأضعف الإيكاء والربط، حتى إذا توغل في البحر وتوسطه أخذت الريح تخرج من قربته وأوشك على الغرق، فنادى صاحبه أن يا فلان إني قد أوشكت على الهلاك، فرد عليه وما ذنبي أنا؟ يداك أوكتا- ربطتا – وفوك نفخ.
فيا شعب
مصر حذار أن تكون ذاك الرجل.
لست مصريا ولكني أذوب في حبها. لست مصريا ولكني تربيت على كلمات شيوخها وعلمائها. لست مصريا ولكنها أمي التي أحبها. لست مصريا ولكني لو لم أكن فلسطينيا لوددت أن أكون من أهل قاهرة معزها.
لي ولد أسماه جده عمرو، تيمنا بفاتح مصر ابن العاص. في الخامس والعشرين من كانون الثاني/ يناير المقبل يكمل ربيعه الثامن بعيدا عن جده الذي يتمنى لو يضمه إلى صدره، وينظر في عينيه، ويلاعب براءته، ولا يزال يرقب حلمه بلحظة لقائه. يمنعه عن تحقيق حلمه معبر بينه في
غزة وبين مصر التي يهوى ترابها ويحن لأيامه التي درس في جامعاتها وارتوى من نيلها وجاب شواطئ عروسها الاسكندرانية.
تقترب ذكرى يناير وما فيها من ذكريات الأمل والتفاؤل ونسج الأحلام، ولكن ذكراها هذا العام تتداخل فيه المشاعر وتختلط الأفكار والرؤى. وأتساءل كما غيري كثيرا: هل حقا شهدت مصر ثورة أم كانت انتفاضة انفض عنها أهلها واحتوتها ثورات الدولة العميقة المضادة؟ هل ستعود
الثورة وعنفوانها؟ هل لا زال في مصر من يؤمن بالثورة ومنهجها، أم كما يقول البعض إن من يسكنون ضفاف الأنهار من طبعهم السكون والاسترخاء والدعة والخلود إلى الحياة الهادئة المسالمة؟ هل أهل مصر كما يقول البعض من التحف بهم التحف السماء؟ هل استطاع الحكم العسكري الجبري على مدار العقود الماضية أن يقتل النخوة في قلوب المصريين فلا تتحرك فيهم مشاعر الغضب لحصار غزة وظلم أهلها؟ هل غفل المصريون عن واقع أمتهم والخطر المحدق بها؟ هل تغيرت عقيدة الجيش المصري ليقتل شابا عاريا أعزل يعاني اضطرابات نفسيه وعقلية؟ ليس ذلك فقط بل وأن يطالب إعلامه البذيء أن يقطع الشاب وكل من يعبر الحدود إربا إربا، هل استطاعت ماكينة الإعلام الموجه أن تلوث وعي الشعب المصري إلى هذا الحد؟ هل أضحت إسرائيل جارة وأصبحت غزة تهديدا للأمن القومي المصري، إما أن يسجن أهلها أو يعتقل أو يقتل من يخرج منها؟ هل هذه هي مصر التي قرأنا في كتب تاريخنا عن عزها ابن عبد السلام وعن قطزها وبيبرسها؟ هل هذه مصر أكتوبر؟ ثم أين رواد الصحوة الإسلامية؟ أين شيوخها الذين تربينا على خطبهم ومواعظهم؟ أين من يقفون في وجه الظالم يقولون كلمة الحق؟ أين وأين وأين....
جاءني الجواب من "ابن عيينة" حين سأل مصريا عن مكان سكنه فأجابه أنه يقطن الفسطاط، فقال له ائت الإسكندرية فإنها كنانة الله التي يجعل فيها خير سهامه. وأثارت شجوني كلمات من خطبة الشيخ العريفي في فضائل مصر وأهلها، أقتبس منها قوله: "من شاهد الأرض وأقطارها والناس أنواعا وأجناسا ولا رأى مصر ولا أهلها فما رأى الدنيا ولا الناس. هي وطن البلاد وهي أم المجاهدين والعباد، قهرت قاهرتها الأمم ووصلت بركاتها إلى العرب والعجم، هي بلاد كريمة التربة، مؤنسة لذوي الغربة، فكم لمصر وأهلها من فضائل، ومزايا، وكم لها من تاريخ في الإسلام وخفايا منذ أن وطئتها أقدام الأنبياء الطاهرين، ومشت عليها أقدام المرسلين المكرمين والصحابة المجاهدين".
لقد ثار شعب مصر ثورة شهد العالم الحر لها، ورسمت للإنسانية صورة من العلو والجمال الحضاري الذي يليق بها وبشعبها الكريم، ولكن سرعان ما تداعت عليها الأكلة من كل حدب وصوب. تداعت على هذه الثورة الملهمة أموال الخليج الفاسدة، وتداعت عليها قوى الغرب الحاقدة المنافقة، وتداعت عليها قوى المنتفعين في الدولة العميقة، وخنقها خيانة المتسلقين من أبنائها، واستعجل البعض ثمرتها، فانطفأت جذوة الثورة، وسلك الجميع مسلك الإصلاح اجتهادا وترجيحا، لحفظ الأوطان، ودماء الأبناء والبنات، ولكن أبى الفساد إلا أن يعود بمكره وخداعه، ليطيح بخيار الشعب ويسلب إرادته، ويحاول لي عنقه ليركع مرة أخرى لنير العربدة والتسلط العسكري العقيم الذي فشل وسيفشل في أن يحقق شيئا مما وعد به، فرسالته فرعونية كانت ولا زالت واضحة "لا أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد".
أربك كيد الكائدين وتدبير الخائنين جموع وصفوف الثوار، ولم تكن جماعة الإخوان المسلمين استثناء من حالة الارتباك تلك، فقد أصابت الثورة المصرية بعموم أطيافها ومجمل مبادئها. لا يخفى عن الجميع أن جماعة الإخوان المسلمين كانت رائدة الثورة المصرية، ولذا فقد استحقت أن تتعرض إلى جملة الضربات التي قل نظيرها في تاريخها المليء بالتضحيات، استهدفتها ولا زالت كل قوى التجبر والطغيان، ابتدأها العسكر برابعة الصمود، وأعقبها باعتقال علمائها وقياداتها ومشايخها، وإصدار أحكام الإعدام بحقهم جميعا دون جرم أو محاكمة، ومصادرة أموالها وجمعياتها ومقراتها، وملاحقة المطاردين منها في الداخل والخارج، وحظر نشاطها داخليا والسعي لحظرها خارجيا وتجريمها ووصمها بالإرهاب، وذلك هو عين ما بشرهم به الإمام البنا حين خاطب أبناءها قائلا: "أحب أن أصارحكم أن دعوتكم ستلقى خصومة شديدة، وعداوة قاسية، وستجدون أمامكم الكثير من المشقات، وسيعترضكم كثير من العقبات، وفي هذا الوقت وحده تكونون قد سلكتم سبيل أصحاب الدعوات، وستجدون من أهل التدين ومن العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام، وينكر عليكم جهادكم في سبيله، وسيحقد عليكم الرؤساء وذوو الجاه والسلطان، وستقف في وجهكم كل الحكومات على السواء، وستحاول كل حكومة أن تحد من نشاطكم، وأن تضع العراقيل في طريقكم".
ولذلك، فإنه وبين يدي الأزمة التي تعصف بكيان الإخوان؛ وجب على الجميع وعلى رأسهم جيل الشباب الصاعد أن يفهم وأن يعقل حقيقة المعركة، وأن يستوعب ألا شيء يوهب أو يُمنح، لا الحرية ولا فرصة التمكين والقيادة، فقد طلب الإمارة أبو ذر فقال له صلى الله عليه وسلم إنك ضعيف وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها. فلم يعطِ الإمارة أبا ذر رغم أنه طلبها لظنه بأنه أهل لها، وبأنه يمتلك نواصي الحكم وأدواته، ويستطيع أن يقود الإمارة بعمله وحكمته، ولكن كانت للقيادة رؤية مغايرة ورأي آخر.
إن من نافلة القول أن نقرر حقيقة أن معركة التغيير معركة أزلية دارت وتدور رحاها بين القديم والحديث، بين التجديد والأصالة، بين الرعيل الأول المؤسس والجيل القادم المجدد، والجميع في هذه المعركة يرى أن منطلقاته وقناعاته هي الأقرب للصواب. فالشباب ينادي بتمكينه وإتاحة الفرصة لطاقاته وإمكانياته كي يقود المرحلة العصيبة التي تمر بها معظم الكيانات العاملة على الساحة - إسلامية كانت أو يسارية أو علمانية - والحرس القديم لا يزال جاثما على صدرها ممسكا بزمام الأمور ومتمترسا خلف تبريرات وأعذار قد تكون لها وجاهتها، فهم أهل التضحية والسبق في الابتلاء ومرافقة المؤسسين، أو بحجة أن الشباب المتحمس الثائر لا يمتلك حكمة الشيوخ ولا يزن الأمور بميزان المصالح والمفاسد، بل ويتسرع في اتخاذ القرار ما قد يودي بما أسس له سلفه ومن سبقوه، وهذه الأعذار ورغم وجاهتها إلا أنها لا تبرر احتكار الحكمة وسداد الرأي على فئة دون أخرى.
فإن كان للشيوخ ما يقدموه كأعذار وتبريرات لمواقفهم المتصلبة المقاومة للتغيير في بعض الأحيان، وخوفهم على كيان الحزب أو الجماعة أحيانا أخرى، ودفاعهم عن وجودهم بالقول إنهم جاؤوا بوسائل ديمقراطية شورية أقرتها قوانين ولوائح الحزب أو الجماعة، وإن اختلف البعض حول طبيعة هذه الوسائل الديمقراطية أهي "دكتاتورية انتخابية" أم "شورى توافقية" أم "تزكية مناطقية"؟! فإن للشباب أيضا اعتراضات وانتقادات لا تنقصها الوجاهة والمنطقية في مجملها، إذ إن من يصلح للحرب قد لا يصلح وقت السلم، ومن ثبت في المحن والسجون ومقارعة السلطة ليس بالضرورة أن يكون أهلا للإدارة والحكم، ولذا وجب البحث عن الأمثل من آليات الاختيار ومعايير التكليف والتوكيل، خاصة في المرحلة الحساسة الراهنة التي تعيشها المنطقة بأكملها، فليس فينا تلك القيادة الربانية التي ترى وتبصر بنور الوحي أكان أبو ذر أهلا للإمارة أم لا؟ وليس للثورة ضوابط حكمة وعقلانية الشيوخ والإصلاحيين، فالثّورة كمصطلح سياسي تعني الخروج عن الوضع الرّاهن وتغييره باندفاع يحرّكه عدم الرّضا، والتطلّع إلى الأفضل أو حتّى الغضب. ولذلك كان لزاما على من تصدر للعمل الثوري أن يمتلك زمام المبادرة وأن يمتلك ناصية خياراته واجتهاداته التي قد لا تتماشى مع رغبات الحكماء والعقلاء ولكنها فريضة المرحلة وعنوان التغيير.
هذا لا يعني بحال أن يندفع الشباب المتحمس إلى أتون معركة يحترق في لهيبها، فالثورة لها من الأشكال ما لا يعد ولا يحصى في مقارعة السلطة الاستبداية، وذلك بتجييش القوى الحية والاصطفاف الثوري على قواعد وأسس موحدة وجامعة للأطياف كافة دون إقصاء أو تحقير، فالوطن وطن الجميع، ولا بد أن يحتوي الجميع علمانييهم وإسلامييهم، مسيحييهم ومسلميهم، يسارييهم وشيوعييهم، ولكن على أساس المساواة، واحترام الآراء، وتغليب لغة الحوار، والنأي عن التجاذبات للحفاظ على كيان الوطن وبنيته الاجتماعية.
نهاية أقول: لم ولن تكون مصر وأهلها ممن استمرأ الذل، وألف المهانة، وسكن الخنوع، واستوطن العبودية، حتى اعتادت رقبته الانحناء فتلك ليست شيم ولا مروءة مصر وأهلها.
بوركت مصر فلا أراني بالـغـا ** حق المديح وإن جهدت سبيلي
يا مصر يرعاك الإله كما رعى ** تــنزيــله مـن عابـث ودخــيــل