كتاب عربي 21

مضايا طريقا إلى القدس: نموذج لإيديولوجيا زائفة

1300x600
وحده حسن نصر الله الذي قال بأن الطريق إلى القدس تمرّ بالمدن والبلدات السورية، في لجوء إلى أقصى ما تطيقه نسخة إيديولوجيا المقاومة التي اعتمدها الحزب طوال تاريخه، لأن الاستدعاء هنا لم يكن على سبيل حشد الأمة في الطريق إلى القدس، ولكنه كان على سبيل تبرير الدور الحربي الذي اتخذه حزب الله داخل سوريا، وبهذا فإن المعركة في مضايا هي عينها في أي من مدن وبلدات فلسطين المحتلة، لأن العدو بحسب هذا الاستخدام الإيديولوجي واحد. إن السوري الأعزل، طفلا كان أم شيخا، في مضايا، هو في النتيجة "إسرائيلي"، وإن كان يمكن بمزيد من التحوير الإيديولوجي وضعه في مشروع آخر يمتصه كفرد أو إنسان. فهو أي شيء في صورة مؤامرة، ومشروع كبير، وإرادات كبرى، يمكن أن يكون لحديا أو تكفيريا أو إرهابيا أو سابي زينب، لكنه أبدا لن يكون بشرا بذات خاصة، تتوجع وجعها الخاص خارج هذه السياقات كلها. إنه ترس في الماكينات الكبرى، مجردة من أي نوازع إنسانية خالصة، ومنعدمة من الإحساس المميز للكينونة الآدمية.

لا تختلف الإيديولوجيات في نزوعها القصووي إلى أبعد أطرافها لتبرير سلوك وحشي، عن الأنظمة التوتاليتارية، من جهة نظرتها للبشر، ما دامت جزءًا من مشروع شمولي أو طائفي خاص، أو من ذلك كله، فكل شيء هنا مسيس، بما يستبعد تمامًا الإنسان بنوازعه التي ركّبت فيه. وإذا كانت الأنظمة التوتاليتارية تحاصر دائمًا، بنسة ما، النوازع الإنسانية بصفتها تهديدا محتملا، كما ظهر عربيا، مثلاً، في حالة القذافي، المأساوية في كاريكاتوريتها، المفكر الوحيد والمخترع الوحيد والأديب الوحيد والزعيم الوحيد، فإنها كامنة بعدوانيتها وقسوتها داخل الإيديولوجيات، التي تنحسر عنها في الأزمات الكبرى، وفي الحروب الطاحنة، وفي الصراعات الأهلية والطائفية. فينكشف موقع الإنسان في الإيديولوجيا، التي لا تراه إلا شيئًا مسيسًا، أوجاعه مسيسة، آلامه مؤامرة، جوعه مكيدة، فكيف إذا كانت الإيديولوجيا، هي إيديولوجيا المقاومة في هذه الحالة، غطاء لبنية طائفية عميقة، الأمر الذي يعني استفزاز الوعي الطائفي، بما يضاعف من سحق الإنسان، فهو عدو المقاومة، وهو "عدونا" ما قبل المقاومة، وما قبل "إسرائيل"، وما قبل الأزمنة الحديثة.

كشفت الثورات العربية الوقائع التي طمستها إيديولوجيا الأنظمة العسكرية الانقلابية، وصُدم الناس بأنفسهم وجيوشهم وقضائهم ونخبهم وإعلامهم ومعارضاتهم. لم يكن ممكنًا قبل ذلك أن يرى الناس أنفسهم، فقد طمسهم الحكم الشمولي بإيديولوجيا الزعيم الخالد، والزعيم المناضل، والزعيم الملهم، ورائد النهضة الحديثة، وصوت المعركة، والطريق إلى فلسطين، والجيش، والدولة.. حتى إذا انكشف ذلك كله، أحسّ الناس بأنفسهم، وبعمق المأساة. لم يكن متاحًا قبل ذلك رؤية مصر إلا في صورة الدولة والجيش، ولم يكن متاحًا رؤية سوريا إلا بصفتها سوريا الأسد، وإذا كان يمكن ملاحظة البشر في سوريا ومصر والعراق بنسب متفاوتة وكإضافات كمية يمكن إعادة تدويرها داخل الصورة الكبيرة، فإن الشك ظل حاضرًا حيال وجود البشر في ليبيا.

إيديولوجيا الثورة، والعداء للاستكبار العالمي، ومقاومة الحالة الاستعمارية في فلسطين، مع وجود ممارسة فعلية وجادّة على الأرض، كانت كافية لأن تحمي البنى العميقة التي مثّلت متن المشروع الإيراني وجوهر الإيمان الولائي لحزب الله، من الانكشاف، بالرغم من الطبيعة الافتراقية لهذه البنى، والمستقلة بمشروع خاص يستمد اتجاهاته من طبيعة تلك البنى، القومية في حالة إيران، والطائفية في حالة كل من إيران وحزب الله، بما يحتّم الاصطدام بأطراف الأمة الأخرى.

لقد حالت الإيديولوجيا هنا، والمستندة إلى ممارسة حقيقية، دون رؤية أطياف واسعة من الأمة البنى الطائفية واتجاه المشروع الإيراني الخاص بملحقاته طوال العقود الثلاثين الماضية، لكن ورغم انكشافها من بعد الثورات العربية، كما انكشف كل شيء تقريبًا في عالم العرب، فإنها عادت لتمارس دورها في طمس الإنسان الآخر، واختزاله في الصور الكبرى، صورة المؤامرة على المقاومة في الشعار القناع، وصورة يزيد في الوعي الكامن، وفي ذلك كله ينتفي الإنسان تمامًا في سوريا، ويُختزل كل شيء في "إسرائيل"، بكل ما يُلصق بها من محفوظات، أو في "التكفيريين" الذين يُلصقون أيضًا بـ"إسرائيل"، وفي الطرف الآخر المقاومة، وفي هذه الحالة فإن "إسرائيل" هي التي تجوع في مضايا، أو التكفيري الوهابي، وقطر وتركيا والنيتو والسعودية.. الخ قائمة المحفوظات. لكن أبدًا لا يوجد هناك بشر في مضايا.
لكن البشر في الفوعة وكفريا فقط، هناك يُدان الحصار، وهناك تلقي طائرات النظام السوري مساعداتها. هكذا يعاد تدوير البشر ومظهرتهم داخل المشروع الخاص، وهم أيضًا في اليمن، في الفريق الحليف، وفي العراق وفي البحرين وفي نيجيريا وفي السعودية...الخ. وهكذا يعاد إنتاج الخطاب الأخلاقي بعدما رفضه جمهور المحور الإيراني في سوريا، فثمة بشر إذن، وثمة خطاب حقوقي، ولكنهم "بشرنا نحن" نعيد تدويرهم داخل مشروعنا، غطاءً أخلاقيًا هذه المرة، ولكنه مكشوف للغاية، فيصير إعدام رجل واحد من بين 47 إنسانًا نفذ فيهم الإعدام وحده المدان، من طرف من يطمس الإنسان تمامًا في سوريا.

ليس هذا التناقض الأول الذي تطيقه إيديولوجيا المحور الإيراني، بجرأتها العالية على الانتقائية والانتهازية، فلطالما رفض جمهور المحور الإيراني تشبيه إجرام النظام السوري بـ"إسرائيل"، كان الرفض يتخذ شكل المبدأ المتعاظم في توتره وضيقه، إنه الرّفض المقنّع بالمقاومة، لكن حسن نصر الله وحده الذي حقّ له القول بأن حرب السعودية وحلفائها في اليمن هي حرب "إسرائيل" وأمريكا، وأن جرائم تلك الحرب تفوق جرائم "إسرائيل" في فلسطين، وحسن نصر الله وحده الذي يحقّ له القول بأن "التكفيريين" أخطر من "إسرائيل". وهكذا بات جائزًا لحزب الله وجمهوره كل ما هو محرم على غيره، أي تشبيه الخصوم بـ"إسرائيل" وأبلستهم بما يفوق الشيطان "الإسرائيلي"، ودون أن يشعر هذا الجمهور بحد أدنى من التناقض أو الخجل.

تصل الإيديولوجيا، في هذه الحالة، غايتها القصوى وهي تحجب العقول عن رؤية الوقائع كما هي، في نمط من عبادة الهوى، وتجسيد الشعارات النبيلة، كالمقاومة، في كيان، يصير إلهًا، تناقضاته اتزان، وكذبه صدق، وظلمه عدل، ولا يسأل عمّا يفعل. وذلك الذي يتخد إلهه هواه، كما أخبر القرآن، يُختم على سمعه وقلبه ويُجعل على بصره غشاوة، فكيف يرى الواقع؟

وحده حسن نصر الله إذن الذي يمكنه أن يقول دون أن يشعر بالخجل، إن الطريق إلى القدس تمرّ على أجساد الجوعى في مضايا، ووحده الذي يدعو خصومه اللبنانيين، دون أن يشعر بالعيب، للمنازلة في سوريا وتجنيب لبنان الصراع. في لبنان بشر وفي سوريا مؤامرة، إلا في الفوعة وكفريا، فهناك بشرٌ أيضا!