جدل واسع يشق النخبة التونسية بعد خمس سنوات على ثورة الرابع عشر من يناير 2011.. وتقود هذا الجدل، رؤيتان تنطح إحداهما الأخرى..
الارتداد إلى الخلف
إذ يدفع قسم من السياسيين والمثقفين وطابور الإعلام القديم، باتجاه استخراج حصاد عكسي لاستحقاقات الثورة ومطالب شبابها.. ويجري الحديث في هذا السياق، عن ازدياد نسبة الفقر، واتساع دائرة التفاوت الطبقي، وتنامي عدد المعطلين عن العمل إلى نحو 600 ألف شاب وفتاة، ونسبة نمو اقتصادي لا تتجاوز الصفر، إلى جانب وضع أمني شديد الهشاشة، تحرك خيوطه بعض المخابرات الأجنبية المتحالفة مع مجموعات إرهابية، بالإضافة إلى وضع سياسي متقلب، يعتمد على توافقات أشبه بلعبة "البينغ بونغ" برعاية حكم أجنبي في مباراة، عادت فيها وجوه الحكم القديم لكي تحكم من جديد، رغم أن الثورة قامت على أنقاضها..
ويرى أصحاب هذه الرؤية، أن الأفق بات غامضا، وإرادة الحاكمين لا تؤشر على رغبة في التغيير أو الإصلاح الحقيقي، فضلا عن الشروع فيه، وهو ما يجعل الحديث عن "ثورة ثانية"، ضرورة سياسية واجتماعية وثورية أيضا..
وبالطبع، يستتبع هذا التحليل، التسويق الأخطر، وهو أن ما حصل في تونس لم يكن ثورة، وبات المهمشون يتمنون عودة الرئيس المخلوع، تعبيرا عن حالة اليأس التي استبدت بهم..
مورفولوجيا النظام تغيرت
في مقابل هذه البانوراما الدرامية، يقدم قسم واسع من النخبة التونسية تقييما يصفونه
بـ "العقلاني والواقعي"..
فهم يعتبرون أن الثورة مسار وليست لحظة تاريخية عابرة، ويشيرون إلى تغيير جذري حصل في البلاد، خلال السنوات الخمس الماضية..
فقد سقطت رموز النظام المخلوع، وتهاوى بنيان الاستبداد، لتحل محله حرية التعبير والتنظم، وتشهد تونس حراكا سياسيا وحزبيا غير مسبوق في تاريخها، وبات التداول السلمي على السلطة وعلى مؤسسات الحكم، أمرا واقعا وملموسا، وتمتلك البلاد اليوم دستورا لا نطير له في الدول العربية، ومجتمع مدني الأكثر حياة في المشهد العربي الراهن، الذي يمثل جدار اليقظة الذي تنكسر عليه جميع محاولات الارتداد على الثورة..
ويضيف أصحاب هذه المقاربة، أن التوافقات التي تهندس الشأن السياسي في الحكم، كما في المعارضة، تعدّ "كلمة السرّ" لنجاح تونس، فهي التي أتاحت لثورة يناير 2011، لأن تتحول إلى نموذج، قد يفتح مسار توافقات ومصالحات واسعة في المنطقة العربية..
لا شك أن لوبيات كثيرة، مالية وسياسية، داخلية وإقليمية، لعبت على وتر تبخيس الثورة والثوار، ووجد استئصاليو الأنظمة القديمة في ذلك، هوى في أنفسهم، خصوصا بعد صعود الإسلام السياسي إلى دفّة الحكم، وتحوله إلى لاعب رئيس في المشهد السياسي، وفي صياغة الترتيبات الجديدة للسلطة، التي ستقود دول الربيع العربي لعقود طويلة..
لكن هذا الجدل، وهذه التباينات في المقاربة والتحليل وأفق النظر للثورات العربية ـ ومنها الثورة التونسية ـ يدلل على أن المشهد العربي قد تغيّر عمليا، وأن المعركة الحقيقية، هي بين من يحرص على استيعاب هذه المتغيرات باتجاه انتقال ديمقراطي حقيقي، ومن لا يزال في لحظة ما قبل هذه الثورات..
وبين الطرفين، مسافات وسياقات وعناوين مختلفة..
عن صحيفة الشرق القطرية