نعم، لا زال النظام يُدهشنا.
توقعنا أشياء كثيرة يمكن أن يفعلها للتشويش على رد الجهاز المركزي للمحاسبات على تقرير ما يسمى بلجنة تقصي الحقائق، البعض انتظر حملة جديدة ضد الجهاز ورئيسه المستشار هشام جنينة، البعض راهن على تجاهل الرد في الإعلام بحيث لا يحظى بفرصة كالتي حظي بها تقرير لجنة الرئيس، حتى إن البعض توقع تشكيل لجنة ثالثة يطول عملها حتى تموت القضية، لكن أحدا لم يخطر بباله أن يصدر قرار بحظر النشر في القضية كلها.
وصول "الحظر" إلى هذه القضية التي كانت تحتمل حلولا أخرى أكثر "شياكة"، يؤكد قلة حيلة النظام الحالي وضعف قدرته على أي مواجهة، حتى ولو كانت بين أطراف من داخله، ويجعلك تعيش في دولة مغلقة النوافذ سيكون صعبا عليك حصر قائمة المحظورات فيها، لذلك فالأسهل أن تسأل عن قائمة الأشياء التي لا زال مسموحا بها.
حظر نشر
شهد عام 2015 وحده صدور قرارات من النائب العام بحظر النشر في 11 قضية، هي تقريبا أهم قضايا العام، وهي:
اختطاف وقتل النقيب أيمن الدسوقي ضابط أمن الموانئ في سيناء، قتل الناشطة شيماء الصباغ على يد الشرطة في ميدان طلعت حرب، قضية تنظيم أنصار بيت المقدس المتهم فيها 213 شخصا، تعذيب وقتل المحامي كريم حمدي داخل قسم شرطة المطرية، تورط قاضيين وضباط شرطة في تهريب الآثار، القضية 250 المتعلقة بتورط شخصيات عامة وسياسية وإعلامية في تلقي تمويلات من الخارج، اغتيال النائب العام السابق هشام بركات، تورط قاضي في طلب رشوة جنسية من إحدى السيدات، رشوة وزير الزراعة المستقيل صلاح هلال، وقتل السياح المكسيكيين في الواحات، بخلاف حظر النشر في قضايا أخرى أقل أهمية.
حظر النشر لا يقضي فقط على حق الناس في المعرفة وإتاحة فرصة أكبر للفساد كي يأخذ مجراه، لكنه أيضا يجعل الصحافة في موقف حرج للغاية، فالقضايا التي كانت تثير شهيتها للبحث والتنقيب والسعي وراء انفراد أو معلومة جديدة، صار ممنوعا الاقتراب منها وبالتالي تخسر فرصا كثيرة لتحقيق مبيعات تدعم الصناعة، ويكون البديل أمامها إثارة قضية نسب أو زواج فنان أو فضيحة لاعب كرة لسد الفجوة، ليخسر المجتمع بالتبعية فرصا أخرى لبناء وعيه، فبدلا من أن تكون النقاشات بين الناس عن الحكم الرشيد ومكافحة الفساد والشفافية وحقوق الإنسان، تصبح كلها عن أبناء أحمد عز وزوجة سعيد طرابيك وضيوف وائل الإبراشي.
حظر تصوير
ليلتان قضاهما الصحفي أحمد يوسف في الحجز فقط؛ لأن عسكري مرور شاهده يلتقط صورا للمناظر الطبيعية حول جامعة القاهرة وأخبر الضابط، وبعد أن تفحّص الضابط الصور الموجودة على هاتفه، اقتاده إلى القسم وقال لرؤساءه: "ده شاب لاقيته عمال يصور أكمنة الشرطة وأرقام العربيات اللي عند الجامعة، وصوّر الضباط ضابط ضابط، ولما جينا نمسكه فتح في الجري".
جُملة كانت كفيلة بالقضاء على مستقبل أحمد والحكم عليه بسجن طويل لو لم يكن صحفيا، ولو لم تنتشر قصته بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعي، وهكذا يُصبح توقفك في الشارع لالتقاط صورة تعجبك أخطر من ارتكاب جريمة قتل، ففي الثانية قد يجد لك المحامي ألف ثغرة، لكن في الأولى سيكتفي القاضي بشهادة الضابط.
هذه الواقعة ليست الأولى، ففي العامين الأخيرين تعرض كثيرون للموقف نفسه ويقبع آخرون في السجن فعليا الآن بالتهمة نفسها، نفهم أن يكون هناك مناطق معينة للتصوير ممنوع فيها لدواع أمنية، لكن أن يكون التصوير في أي شارع في
مصر ممنوعا ومثيرا للريبة، فهذا يتجاوز قدرة أي عاقل على الفهم.
حظر إبداع
أمام القاضي وقف الكاتب أحمد ناجي بعدما أحالته النيابة إلى المحاكمة هو ورئيس التحرير بتهمة نشر مواد أدبية تخدش الحياء العام وتنال من قيم المجتمع، لأنه نشر فصلا من روايته «استخدام الحياة» في جريدة أخبار الأدب.
في أمر الإحالة قالت النيابة إن "الاتهام ثابت على المتهمين وكاف لتقديمهما إلى المحاكمة الجنائية؛ بسبب ما قام به المتهم أحمد ناجي ونشره مادة كتابية نفث فيها شهوة فانية ولذة زائلة، وأجر عقله وقلمه لتوجه خبيث حمل انتهاكا لحرمة الآداب العامة وحسن الأخلاق والإغراء بالعهر، خروجا على عاطفة الحياء".
هكذا تنظر جهات التحقيق عندنا إلى الإبداع، تريد أن تقيده بما تراه تقاليد للمجتمع، بدلا من أن تترك للمجتمع تحديد ما يناسبه، صحيح أن القاضي برأه في النهاية لكن سيف الرقابة لازال مسلطا على رقبة أي مبدع، مادامت المواد التي تبيح الحبس في قضايا الإبداع باقية.
حظر تفكير
مرتديا البدلة الزرقاء يجلس إسلام بحيري في هذه اللحظات داخل زنزانة في سجن طرة؛ لأن محاميا لم يعجبه ما يعرضه إسلام في برنامجه التليفزيوني، ورآه يزدري الدين الإسلامي ويطعن في شخوصه.
قبل تقدم المحامي المجهول بالدعوى، كان بحيري يحضر مناظرة تليفزيونية مع شيخين آخرين يتصارعون خلالها بالأفكار ويرد كل منهم على طرح الآخر، لكن أحدا لم يشأ للتجربة أن تكتمل، واستسهل الجميع الحظر والسجن والتغييب بدلا من المناقشة والحوار.
يتساوى في ذلك التفكير في شؤون الدين أو السياسة، فكما غيّب السجن إسلام غيب عشرات غيره ممن تعاقبهم السلطة على التفكير بطريقة أخرى تخالف الطريقة الرسمية المعتمدة للتفكير، على رؤيتهم المختلفة للعدل والاستقرار والإرهاب والإدارة.
حظر تنظيم
كل الحركات والتنظيمات ممنوعة إلا المؤيدة للسلطة، يمكنك إنشاء عشرات الحركات المؤيدة، ولكنْ محظور عليك مجرد التفكير في إنشاء حركة معارضة.
حظرت السلطة حركة 6 أبريل رغم أنها كانت أحد درجات السلم الذي صعدت به إلى الحكم بعد إسقاط مرسي، وحظرت روابط الأولتراس التي كانوا يعتبرونها في السابق روح الملاعب، حظرت اتحاد طلاب مصر الشرعي بعد أن أسقطت الانتخابات مرشحي الأمن الوطني، حظرت حركة البداية بعد أسابيع من تأسيسها، وحظرت حركة 25 يناير قبل تأسيسها أصلا.
تحظر الدولة الكيانات العمالية المستقلة، والتجمعات السياسية والفئوية، وتحظر اجتماع أكثر من 9 أشخاص في مكان واحد، وتحظر التظاهر والاعتصام والإضراب.
استفادت من درس 25 يناير، عرفت أن الثورة قامت وقتها لأن المظالم زادت فخرجت المظاهرات، فلم تمنع المظالم، لكنها منعت المظاهرات.
حظر سفر
لا تفكر أنك يمكن أن تهرب من كل هذه المحظورات بالسفر، فالسفر نفسه محظور.
تحظر الدولة السفر إلى الدولة التي يمكن السفر إليها دون تأشيرة، وتشترط موافقات أمنية للسفر إلى عدة دول أخرى، تحظر السفر دون سبب وتصادر الجوازات من أصحابها دون تهمة، حدث ذلك حين منعت سفر عدد من شباب الأحزاب، أغلبهم من المؤيدين للنظام لحضور مؤتمر في الخارج، وحدث أيضا مع الشاعر عمر حاذق المفرج عنه بعفو رئاسي مؤخرا، حين منعت سفره إلى هولندا لاستلام جائزة في حرية التعبير
***
يتناسب معدل الحظر عكسيا مع معدلات ثقة الأنظمة في نفسها، فكلما زادت ثقة أي نظام في نفسه قلت المحظورات، وكلما كان النظام هشا فاشلا لا يثق بنفسه، لجأ إلى الحظر ليعصمه من الناس.