فجأة، ودون إنذار أو مؤشرات، صمت
هاتفي الذكي منتصف تلك الليلة عن الصوت، واحتجب عن الضوء بما يشبه الوفاة المبكرة عن عمر يناهز أربعة أشهر فقط بالسكتة الدماغية، أغمضتُ شاشته بالغلاف الجلدي، وأسجيتُه بمودة قرب رأسي على "كومود" السرير، على أن نقيم له صباحا ما يلزم من المراسم في شركته الأم.
أودعتُ جثته في اليوم التالي "مستشفى" الشركة التي استمهلتني أربعة أيام لتحديد سبب الوفاة، وما إذا كان يمكن إنعاشه، انقضت المهلة، وصدر التقرير "الشرعي".. لقد احترق الهاتف وقررت الشركة منحي بديلا عنه جديد وبالمواصفات ذاتها مجانا؛ لأنه ضمن الكفالة، وقبل ذلك لأن الشركة الغربية هي الكافلة بتعهداتها التجارية بخلاف كثير من الشركات المحلية في عالمنا العربي والإسلامي، ما يجعلنا نتساءل دائما عن غرورنا في ادعاء صلاحنا الأخلاقي وانشغال بعضنا في الدعوة لإصلاح مجتمعات هي أصلح منا بالممارسة والمعاملة بين الناس.
المهم في الموضوع هو كيف عشت تجربة أيام الفحص الأربعة وتعايشت مع هاتف من جيل سابق، اعتبرناه لدى ظهوره نابغة عصرنا، ثم سرعان ما سخرنا من غبائه بالمقارنة مع العقول الإلكترونية المحمولة. ولم أفكر في اقتناء هاتف ذكي آخر؛ لأنني لن أعرف كيف أنقل التطبيقات وداتا المعلومات إليه دون مساعدة جادة.
في الليلة الأولى، لم أغير ساعتي البيولوجية، لجأت إلى البيت في وقت مبكر، فتصفحت اللاب توب بجلوس ممل أمام طاولة، وكأنني في العمل، أغلقته وشغّلت التلفزيون، فلم أستطع متابعة برنامج بعينه، فكل البرامج مطوّلة نسبيا، وأنا المعتاد على أفلام الدقائق الخمس كحد أقصى في صفحات
التواصل الإلكتروني، أقفلت التلفزيون، وحاولت النوم باكرا، ونجحت.
في الليلة الثانية، وبعد انتهاء العمل، تذكرت ضجر الأمس، فاتصلت من هاتفي (أبو لمبة) ببعض الأصحاب، ورتبنا سهرة على عشاء أكرمني الأصدقاء فيها بإبقاء هواتفهم الذكية في السيارات تضامنا مع نكبتي، وتداخلت في اللقاء أحاديث السياسة مع المجتمع وغيرها من الاهتمامات المشتركة، وتواعدنا على اللقاء في المساء التالي -أي الثالث- لحضور ندوة تشرح لغير المتخصصين ما يجري في سوق النفط العالمي، وهذا ما كان.
في المساء الرابع والأخير، شعرت بالتكرار الممل، فخلدت إلى النوم باكرا، لأستيقظ في اليوم التالي على اتصال من الشركة يعلن سحب هاتفي السابق من الخدمة، ويحدد لي موعدا لاستلام الجديد.
في الطريق، أدركت أن اجتماعياتي ستعود بدءا من هذه الليلة إلكترونية بالكامل، سأنسى اختراع التلفزيون، فما أحتاجه منه يصل إلى كفي وموقع "يوتيوب"، والمحاضرة التي يتطلب حضورها ساعتين من الوقت "تتغوغل" بدقيقة قراءة، اللقاء مع الأصدقاء يكون أوسع مشاركة في "فيسبوك"، ومسامرات الأهل أكثر حنينا في "واتس أب"، ونشرات الأخبار تتحول مقاطع سريعة الهضم في "تويتر".
أربعة أيام مع هاتف غبي كانت كافية لتقدير حجم النعمة التي نتنكر لها، فننتقد إدماننا على الإعلام الجديد رغم كل أفضاله علينا، نتحدث على
التكنولوجيا القديمة البسيطة وكأنها ثروة خسرناها، نقارن بينها وبين تكنولوجيا "العالَم الشاشة" وكأننا نقارن بين فيروز ونانسي عجرم، في نوبات من نكران جميل التقدم في عالم التواصل والاتصال. ليس صحيحا أن ذكاء هواتفنا قلّل من مستويات ذكائنا، أصبحنا نتشارك الحوار بصورة أشمل، نشاهد أسرع ولو بإيجاز، نبني صداقات أوسع ولو من خلف حجاب، وقبل كل ذلك أصبحنا نعرف أكثر وأصبحنا نحب أكثر.