وضع الربيع العربي كل التيارات السياسية والفكرية العربية، وخاصة الأيديولوجية منها، في مأزق وجودي دفعها إلى واحد من خيارين: إما أن تتطور من داخلها تطورا عميقا وحاسما لتتأقلم مع واقع جديد، أو أن تموت بصمت.
ويبدو في هذا الاضطراب الكبير أن هناك أسئلة عميقة تطرح هنا وهناك، ولكن الإجابات لا يمكن أن تكون سرية فالجمهور حاضر في المشهد وينتظر ما ستسفر عنه النقاشات والمراجعات، ولم تعد التيارات السياسية التي عاشت طويلا في المعارضة (الضحية) تحظى بتعاطف الجمهور الذي غفر لها التكلس والجمود باسم التفرغ للمعركة مع الدكتاتورية وعلى قاعدة عدو عدوي صديقي، وهذه إحدى أهم ثمرات الثورة؛ إذ إنها فتحت بابين: أولهما النقد والتطور، وثانيهما باب مقبرة التاريخ.
وسأخصص في هذه الورقة على الوضع
التونسي، وعلى
اليسار التونسي، آملا العودة إلى مناقشة بقية التيارات الفكرية والسياسية.
وسبب الاختيار أني دأبت على سماع خطاب اليسار، وخاصة تأكيده على ضرورة تنظير الواقع قبل تغييره، بما يجعله التيار الأكثر تفكيرا في إعادة صياغة المقولات المؤسسة للفكر وللعمل.
اليسار المتعدد
إحدى المعضلات المنهجية في التناول النقدي لليسار التونسي هي أنه يسار متعدد الأسماء والزعامات والأطروحات، فلا شيء يجمع من حيث الطرح بين تيار بعثي عربي وتيار متفرع عن الحزب الشيوعي الفرنسي، وكلاهما يصنف نفسه يسارا، فالتعميم مقتلة للتحليل، إلا أن عنصرين مهمين يجمعان بين تيارات اليسار المتعدد.
الأول: هو أن مكونات اليسار البشرية تنتمي اجتماعيا إلى طبقة وسطى متعلمة، ومتموقعة بحكم تعليمها في الوظيف العمومي وفي المهن الحرة كالمحاماة والطب والصيدلة، رغم أن منحدراتها الاجتماعية في الغالب ريفية مفقرة؛ الا أن المدرسة الحديثة كمصعد اجتماعي منحتها مكانة مختلفة بين الشرائح أو الطبقات الاجتماعية. وهذا الموقع الاجتماعي أنتج أفكاره واستراتيجياته النضالية، واختار القضايا التي يراها صوابا ودفع طاقته لترسيخها، معتمدا على تكتيكات الطبقة الوسطى أو البرجوازية الصغيرة؛ كالنضال الحقوقي والنقابي واجتناب المصادمة الثورية مع النظام الحاكم، وهذه الاختيارات العملية أفقدت اليسار بكل فصائله وقضاياه الامتدادات الشعبية العميقة في الطبقة العاملة وفي المهن الصغرى، بما في ذلك الدرجات الدنيا من الوظيف العمومي، التي لم تفكك شيفرة تفكير اليسار وظلت تنظر إليه بريبة.
الثاني: الخلفية الفكرية الموجهة لفكر اليسار هي خلفية علمانية، لا تفكر فقط في بناء السياسة بفصل الدين عن الدولة كما في أغلب التجارب العلمانية الغربية السكسونية، بل تذهب إلى فصل الدين عن الحياة العامة كما في العلمانية الفرنسية، ومن هذا المنظور يقرأ اليسار التاريخ العربي ويرجع كل أسباب تخلفه إلى هيمنة التفكير الديني على كل مجريات الفعل الثقافي والمادي ولذلك فإن أي تقدم لا بد أن يحسم هذه النقطة ويحيل الدين والمتدينين إلى النسيان.
وعلى هذه الخلفية بنى اليسار (كل اليسار) مواقفه الجذرية من تيارات الإسلام السياسي فهي عنده بوابة رجوع التخلف، والنضال ضدها يكون على قاعدة ترتيب التناقضات الأساسي منها والفرعي لذلك هو نضال مؤسس يسبق النضال ضد الأنظمة السياسية التي توصف بأنها عميلة للاستعمار والامبريالية. يمكن تأجيل المعركة معها (أو التحالف معها مؤقتا) لحين تصفية العدو الحقيقي للتقدم.
مواقف ثابتة في واقع متحرك
بناء على الموقع الاجتماعي البرجوازي الصغير، تم تحديد القضايا والمحاور النضالية ووضع خرائط الفعل الثوري، وتم تصنيف الأعداء وذلك منذ ظهور حركة يسارية في تونس في العشرينيات، وقد تكرس نفس الموقف بعد الميلاد الثاني لليسار التونسي في السبعينيات. رغم أنه ميلاد أعلن عقوقا صريحا وكاملا للحاضنة الأولى (الحزب الشيوعي التونسي) الذي صنفه اليسار الجديد تحريفيا وعميلا وطالما حاربه بالعنف الثوري في الجامعة.
هذا الموقف غيّب ثورية الفكر اليساري التونسي خاصة، والعربي عامة، لذلك وجدناه ينتهي دوما إلى جانب السلطة الحاكمة قطعا للطريق على احتمال تقدم الإسلاميين ولو بوسائل غير أخلاقية.
لم نسمع من داخل هذا اليسار مراجعة للمواقف والأفكار في ما يتعلق بالمسألة الدينية عامة ومع الإسلام السياسي خاصة، وقد سهل هذا دوما التشكيك في عقائد اليساريين ورميهم بمعاداة الدين من قبل السلطة ومن قبل الإسلاميين على السواء ونقل الخلاف معهم إلى مجال العقيدة (إيمان ضد كفر).
وفي معركة العقائد يخسر اليسار الذي لم يفلح في إقامة الحجة على تدينه وحرمان الإسلاميين من شرعية الدفاع عن الدين في مواجهة الكفر، وبعض محاولات المراجعة تصطدم بتجريم قوي من داخل اليسار نفسه، الذي يغار على ما منح نفسه من شهائد التقدمية الفكرية من كل اقتراب من مجاملة عقائد الناس الذين يرون الإسلاميين في المساجد ويرون اليسار(أو بعضه) يحمي أقصى اشكال النضال النسوي (الجندري) بالتعري الجسدي في الفضاء العام.
اليسار تيار أصولي
ورغم أن التحليل المادي يكشف أن المكونات البشرية (الاجتماعية) لليسار والاسلاميين واحدة، إلا أن المنطق الثقافي هو الذي حكم في النهاية، فاليسار التونسي يفكر كما يفكر سلفي متدين.
الأصولي الإسلامي (السلفي) بنى وضعا مثاليا في التاريخ خال من الخطيئة ومنتج للفضيلة فقط ويقود إليه الناس بالقوة، رغم أن حجج التاريخ تكذبه لكنه يصر ولا يراجع، اليساري التونسي مثل السلفي الإسلامي تماما خلق وضعا مثاليا في النظرية، ويقود إليه الناس رغم أن تجارب التاريخ تكذِّبه.
إنه منهج ماضوي رجعي يقيم الحجة على الراهن العملي المتغير بالماضي المثالي المتخيل، آلية تفكير سلفية محضة، لا تنطلق من أن الواقع هو الذي يحدد الوعي بل يجري إسقاط وعي (بل فكر تمامي) جاهز ومكتمل على واقع مختلف، ومن هنا كانت الغربة الفكرية التي لم تسمح بيسار مشابه أو مقارب لليسار اللاتيني الذي قرأ واقعه بأدوات تحليل ماركسية وانتهى إلى مراجعة أسس الماركسية في ما يتعلق بالمسألة الدينية والوطنية فوجد أن الكنيسة المدافعة عن الفقراء ليست الكنيسة الأوروبية التي كانت تبيع الجنة "لنعاج الرب".
ولذلك اتخذها حليفا ضد العدو الرئيسي (الإمبريالية)، فاختفى التناقض الفرعي بين اليساري الملحد وبين القس المسيحي المبشر بجنة غيبية، ليتم تحرير الأوطان (السيادة) وتأميم الثروات (التحرر) وإقامة إصلاح زراعي (تحرير الإنسان من الحاجة)، وتطوير صناعات مختلفة حققت النمو والتنمية.
لقد أنتجت الثورية اليسارية تجارب مختلفة وفعالة في أماكن أخرى بينما ظلت في تونس (والعرب عامة) تخوض معارك فكرية صرفة، مسبقة بناء نظريات عن الواقع دون الرجوع إليه، يوجد خطأ في المنطلقات (المراجع) لا في الأشخاص، وقد اشتغلت الآلة (التنظيمات) اليسارية بهذا الخطأ في الخطة الأولى بما أهدر جهدا كثيرا ولا يزال يهدر الجهد والوقت ويقدم خدمة جليلة لكل أعداء الفكرة اليسارية الثورية.
هل أن سبب الخطأ هو المدرسة اليسارية الفرنسية؟ هل جنى ميلاد اليسار التونسي في الجامعات الفرنسية على قابليته للتطور الفكري محليا؟
لا أستعيد هنا مقولات التخوين التي رمى بها اليسار الجديد يسار
فرنسا التقليدي (الحزب الشيوعي) بل أرجح برغم ما تسرب من الأفكار الماوية إلى فكر اليسار التونسي أن ثبوتية الفكر وجمود الممارسة تكشف نسقا مغلقا من التفكير يذكر بمتلازمة العجز عن التطور التي وصلت إليها اللائكية الفرنسية بشقها اليساري والليبرالي ولا تزال تعاني منها.
اليسار الفرنسي هو آخر المراجعين من اليسار الأوربي واليسار التونسي ينتظر نتائج المراجعات الفرنسية حتى تختمر في جامعاتها ويتم نسخها في بعثات دراسية على نفقة الدولة، أو بهبة من وزارة الخارجية الفرنسية.
إن اليسار التونسي يحتاج إلى تحرير يساريته عبر قطع المشيمة التاريخية مع الجامعة الفرنسية، لكي ينتج لينينه الحقيقي ويعود فيستسيغ بسيسة (أكلة شعبية تونسية فقيرة) قومه ولا يحلم بالكافيار، والربيع العربي هو فرصة حقيقة للمراجعة وليس للاستعانة بضاحي خلفان لمقاتلة الإخوان.