حين يكون الرجل آخر الأساتذة في
مصر المعاصرة، ويظل لأكثر من نصف قرن مالئا للدنيا وشاغلا للناس، فإن أي كتابة عنه تقصر عن تقديمه، فضلا عن أن توفيه حقه. فقد رأى فيه الناس الكاتب السياسي والشريك السياسي والصانع السياسي والمفكر السياسي، وظل كل ذلك بعض أوجهه وليس كلها.
والشق الظاهر فيه وليس الغاطس وغير المرئي، رغم أن الوصف الأثير الذي كان يفضله هو "الجورنالجي". إذ منذ بدأت العمل معه في عام 1958 حتى قبل أسبوعين مضيا، فإن سؤاله الأول عند كل لقاء كان عن "الأخبار". وإذا أدركت أن الرجل كان يتمتع بذاكرة جبارة، حرص من جانبه على إنعاشها وتنميتها بكل السبل، فلك أن تتصور الكم الهائل من المعلومات والأخبار والأسرار الذي اختزنه خلال رحلته الصحفية. وهو كم شمل أطرف القصص وأخطرها التي تغطي تاريخ مصر والعالم العربي منذ العهد الملكي وحتى يومنا هذا.
لذلك أفهم لماذا لم يكتب الأستاذ
هيكل مذكراته، وظل يوظف بعض وليس كل معلوماته في كتاباته وتحليلاته. أما المذكرات فقد ظل يروى بعضها لدوائره المحيطة. وغالبا ما كان يقول شيئا ويحجب أشياء لحسابات خاصة به.
لذلك أزعم أن أقرب المقربين إليه لم يكونوا على إحاطة كافية بما لديه من معلومات. ومخطئ من يظن من خاصته أو تلاميذه أنه سبر أغواره أو قرأه قراءة وافية. ومن خبرتي معه فكل من اقترب منه رأى بعضه واستعصى عليه أن يدركه كله.
لا يستطيع المرء أن يغلق فهمه من الدهشة حين يستعيد شريط المعلومات التي كانت تخرج منه أثناء أحاديثه. من الإمام أحمد حين كان حاكما لليمن حين التقاه وكان أول سؤال سمعه منه كان عن صحة شائعة زواج عمر الشريف من فاتن حمامة، وصولا إلى قصة الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران الذي اطلع الأستاذ وزوجته على شريط مسجل ومصور لأحد القادة العرب وهو يتسلم رشوة في باريس، مرورا بحكاية عملاء الموساد الذين حصلوا على عينة من بول الرئيس حافظ الأسد أثناء زيارته لعمان للعزاء في وفاة الملك حسين، وكم ثروة الخطابات التي أرسلها جمال عبد الناصر إلى المشير عبد الحكيم عامر أثناء إدارته للإقليم الشمالي في دمشق، (أحدها كان في 12 صفحة كتبها عبد الناصر بخط يده). وكان الأستاذ قد زار المشير في بيته لرأب الصدع بينه وبين عبد الناصر، وأثناء الحديث أشار المشير إلى كومة الخطابات قائلا إن ما فيها يثبت عن عبد الناصر تغيير اتجاهه. فما كان من الأستاذ إلا أن أستأذنه في الاطلاع عليها، وحملها معه ثم ضمها إلى خزانته التي تضم كنوزا من الوثائق التي تروى مختلف أسرار تلك المرحلة.
إلى جانب مخزون ذكرياته فإن أوراقه التي لا تعوض أودعها خارج مصر أثناء صراعه المكتوم مع السادات الذي حاول الإيقاع به بطرق عدة تراوحت بين التنصت عليه في بيته والتدقيق في سجله الضريبي. وسمعت منه أن جامعة "ييل" الأمريكية عرضت عليه شراء أوراقه تلك بعدة ملايين من الدولارات، إلا أنه اعتذر عن عدم قبول العرض.
هذا الذي ذكرته ومثله الكثير الذي سمعته منه بعد خروجه من الأهرام سنة 1974، أي طوال 45 عاما أتيح لي خلالها أن اقترب منه أكثر، ذلك كله يعد قطرة في بحره الذي لا شطآن له ولا أعماق. في هذا الصدد أزعم أن اقترابي من "الجورنالجي" كان أكثر وأقوى أثرا. وربما كانت تلك هي المساحة التي تلاشت فيها التباينات واختلاف الرؤى بين الأستاذ وتلميذه. ذلك أن الذي يتعامل مع "الجورنالجي" فيه يتعلم الكثير من خلال النموذج الذي يقدمه والحرفة التي أتقنها والأخلاق التي تمتع بها. فقد كان أستاذنا في كل ذلك. لم يكن يلقي تعليمات أو نصائح. ولكنه كان يجمع المعلومات كأي محرر ويصوغ الخبر بنفسه ويحرر العناوين، ويعلم من حوله بأدائه الرفيع واعتزازه بمهنته واحترامه لذاته ولمصدره.
في صيف العام الماضي حين زرته في منتجع "الرواد" على الساحل الشمالي، كان قادما لتوه من الخارج بعد أن قام بما وصفه بأنها آخر إطلالة له على أوروبا، بدا حزينا ومتشائما لأن الأمور في مصر سارت على نحو خالف توقعاته، وقال لي إنه لن يتكلم وإنه يخطط لرحلة إلى إسبانيا يصحب فيها شريكة حياته السيدة هدايت وأولاده وأحفاده، لأنه يريد أن يبتعد من ناحية وأن يطلع أحفاده على حضارة الأمة التي ينتمون إليها.
إلا أنه بعد عودته ورغم أنه لم يكن قد تعافى تماما، ظهر على التليفزيون في لقاء مع الإعلامية لميس الحديدي. وبدأ حديثه مسكونا بالحيرة والحزن، ومما قاله إن مصر ليس لديها بوصلة واضحة وإن تلك مشكلة خطيرة جدا. وإذا لم تنتبه إلى ذلك فإنها ستصبح مرشحة للخروج من التاريخ، وإن مجمل البيانات المطروحة لا يكفى لإقناع الناس بأن هناك مستقبلا مرضيا ومقبولا. أدركت أنه أراد أن يرضى قبل رحيله.
فكتبت آنذاك في مقال الثلاثاء 29/12 أنه تناول موضوعات حساسة بصراحة ودبلوماسية، وتوقعت أن يكون حديثه الأخير في محاولة الإجابة عن السؤال: مصر أين وإلى أين؟ وفي لقاء لاحق قال لي إن مسؤولا التقاه بعد بث الحلقة، فقال له إن هذا الكلام لم يكن منتظرا منك، فرد عليه قائلا: إذا لم أقله أنا فلن يقوله أحد.
رحمه الله وغفر له وألهم زوجته وأبناءه وأسرته صبرا من عنده.
(عن الشرق القطرية ـ 18 شباط/ فبراير 2015)