على عادته في كثير من العهود، كان
لبنان الحكومي أجنبيا أكثر من الأجنبي، وفي الحالة الراهنة إيرانيا أكثر من الإيراني، حين زايد على المرشد السيد علي خامنئي، ورفَض وزير الخارجية جبران باسيل الشهر الماضي، في مجلس جامعة الدول العربية ما فعله خامنئي شخصيا من إدانة الاعتداءات على السفارة السعودية في طهران وقنصليتها العامة في مشهد.
بالطبع لم يتصرف باسيل باجتهاد شخصي، وإنما عبّر عن الحكومة التي يرأسها ممثل تيار المستقبل تمام سلام، وتتشارك فيها الجماعات السياسية الأساسية في البلاد باستثناء حزب القوات اللبنانية. ولم يكن بوسع الحكومة ولن يكون في المدى المنظور مخالفة توجهات أساسية و"إيرانية" لحزب الله، أكان في ما يتعلق بالشأن الداخلي أو بالشأن الخارجي، وهذه ليست معلومات جديدة بل هي سابقة لتشكيل الحكومة التي باركتها كل من السعودية وإيران، في زواج عسير مخالف لكل حالات الطلاق اليسير الواقع بينهما في أكثر من بلد عربي.
فلماذا إذن بدأت المملكة العربية السعودية الآن بالذات "إجراءات العتب" على لبنان بإيقاف مساعداتها المالية المقررة لقوى الجيش والأمن الداخلي؟ وكيف يمكن أن يُقرأ قرارها ودول مجلس التعاون الخليجي باستثناء عُمان منع رعاياها من التوجه إلى لبنان، ودعوة من فيه إلى مغادرته "حرصا على سلامتهم، وعدم البقاء هناك إلا للضرورة القصوى"؟ علما أن القرارات المماثلة كانت تتخذها دول الخليج في أثناء الاعتداءات الإسرائيلية الواسعة، أو في فترات الاشتباكات المسلحة بين أطراف في الداخل اللبناني.
ما الذي يعرض سلامة الخليجيين للخطر في لبنان، من وجهة نظر حكوماتهم، هل هي سياسة حزب الله العدائية لهذه الحكومات التي يُخشى من أن تكون ولّدت بيئة شعبية "شيعية"، موالية له جاهزة للإساءة لأمن الخليجيين في بيروت، علما أن لا سوابق بارزة على هذا الصعيد؟ أم إن في الأمر رؤية أبعد من ذلك وتصل إلى استقراء مبكر لانفجار وشيك للوضع الأمني في لبنان، على خلفية الانخراط المتعدد الأشكال لأجزاء منه في حرب سوريا، التي يُخشى أن تصدّر مقاتلين إلى لبنان كما تستورد منه، وإن باتجاهَين مختلفَين؟
لطالما تفاخرت قيادات حزب الله بأنها وحدها من تملك القدرة على إشعال البلد وإطفائه في آنٍ معا، وهي لا تريد إشعاله كما تقول، ويبدو أن لا مصلحة لها بذلك طالما أنها تحكم السيطرة على مفاصل الأمن والإدارة السيادية فيه، دون كلفة عسكرية هي بأمس الحاجة لتوفيرها لحساب الجبهة السورية، وهي لا تجد في الأصل من يشكل تهديدا أمنيا حقيقيا لها في الداخل، وخصوصا في الشارع "السُّني" مع نجاح القرار الفلسطيني بتحييد المخيمات عن أي صراع لبناني.
ولطالما كرس تيار المستقبل صورته المسالمة ولو على حساب شعبيته السُّنية. ولطالما نأى النائب وليد جنبلاط بجماعته الدرزية عن الصراع المسلح منذ غزوة 7 أيار، التي نفذها حزب الله ضد مناطق في بيروت والجبل، محسوبة على "المستقبل" وجنبلاط. ولطالما كرست القيادات المسيحية جهودها في الشهور الأخيرة ونجحت إلى حد بعيد في تأمين الحد الأدنى من تماسك الطائفة، وتحصين شارعها من أية تداعيات محتملة للصراع المذهبي السني الشيعي في المنطقة. وعليه، فإن مفاعيل "ميني" الحرب الأهلية في لبنان ما تزال معطّلة، لكنها ستبقى هاجسا يؤرق اللبنانيين وإخوانهم العرب، ولا سيما الخليجيين منهم الذين استثمروا أموالهم وفرحهم في لبنان، فيما استثمر لبنان إبداع أبنائه وتميزهم في دول الخليج.
فمن إذن الذي يهدد أمن الخليجيين في لبنان؟ وهل هو تهديد خاص بهم أم إنه أمن مهدَّد يوشك على الانفجار بوجه اللبنانيين ومن معهم على أرض لبنان؟