معركة
بن قردان الجنوبية (2016) ضد الهجمات الإرهابية المتكررة أعادت الأمل في
الثورة. بل كشفت لمن يريد أن يرى أن الثورة مستمرة وإن اتخذت لها أشكالا مستجدة ليس مما عرفنا في الثورات الكلاسيكية. هناك حالة غير مسبوقة من الحماس لمؤسسات الدولة (الجيش والأمن )التي ظهرت في مواقعها في الوقت المناسب وقامت بما عليها القيام به.
يتحول الحماس مع كل رصاصة صائبة في الجسم الإرهابي الغريب إلى التفاف حول الدولة التي تحوي الجميع. لكن استمرار الدولة لا يظهر في هذا الحماس والالتفاف حول المؤسسات فقط بل في انكشاف الخارجين عن الإجماع الوطني وعن المعركة ضد الإرهاب فينعزلون بما يفعلون ويحفرون بينهم وبين الشعب الذي يقف في الجبهة خندقا غير قابل للتجسير.
إن المعركة الوطنية تكشف أعداءها في الداخل وتعزلهم. وهو أمر يتم لصالح الثورة ومخرجاتها وسيكون له أثر طيب على المدى المتوسط والبعيد. لكن لنعد إلى طبيعة المعركة ثم نعرج على الخطاب الانعزالي وننظر في مؤشرات الأمل في ثورة مستمرة وتجتهد في اختراع أساليبها.
بن قردان في قلب الوطن وليست حصن مراقبة حدودي
كبرت المحطة الصغيرة في طريق طرابلس وغيّر البدو نحلتهم واستقروا فكبرت المدينة في وقت وجيز.(مائة ألف ساكن مستقر غير المهاجرين) تناست دولة الاستقلال الدور المقاوم لقبائل ورغمة لكن المدينة اقتحمت الذاكرة الشعبية في عهد المخلوع بتحول أهلها إلى التجارة الموازية مع الشقيقة ليبيا. فصارت مصدر التزود لكل محترفي العمل على الخط (أي خط
تونس ليبيا). أرسلت المدينة أول علامات الاحتجاج الجماهيري لبن علي صائفة 2010 فلم يفهم حتى أجهز عليه. اختارت المدينة التصويت لحزب النهضة في التشريعية (2011 أو 2014) وللمرزوقي في الرئاسية (2014). فخوّنها الخاسرون هناك ووصل الأمر بأمين عام حزب النداء إلى القول أن الجنوب كافة خرج عن الصف الوطني ويجب أن يستتاب بالقوة.
اختار الإرهابيون بعد محاولات فاشلة عبر الحدود الغربية (الجزائر) أن يدخلوا عبر بن قردان في عمل مشابه لخطة عملية قفصة العسكرية سنة 1980 أي الدخول بقوة والسيطرة على المدينة وإعلان كيان سياسي وطلب النجدة. فاصطدموا لمرتين متتاليتين بخروج المدينة في وجوهم وتصديها لهم بأيد عزلاء مع الجيش وقوات الأمن. بما أفشل خطتهم وأسقط حلمهم الإجرامي وأثبتت المدينة انتماءها وانحيازها لوطنها وشعبها متجاوزة بنبل وشهامة المقتدر ما اتهمت به والجنوبيين عامة من خروج عن الصف الوطني.
هل يوجد تناقض بين موقف المدينة من الإرهاب وبين موقفها الانتخابي واختياراتها؟
أرى أن الموقفين متناغمان. فالتصويت هناك كان رغبة في التغيير ودفعا لكل قوة معادية للنظام القديم على الأقل في خطابها وإذا لم تثمر الانتخابات قطعا مع النظام وارتدت عن خطابها لاحقا تحت مبررات كثيرة. فإن هذا ليس مسؤولية الناخب بل هو مسؤولية من سرق الصوت (وكل صوت مسروق هو درس وعي للناخب في سلسلة المواعيد الانتخابية). في المنطقة عامة وفي بن قردان قلبها، وعي كبير بالثورة ورغبة في تغيير الوضع نحو الأفضل. هذا الأفضل لا يأتي حتى الآن لكن معركة أخرى فرضت على المنطقة فهل عليها أن تنتقم من الطبقة السياسية الكاذبة بالتخلي عن الوطن في وقت حاجته إليها؟
لقد اختارت المدينة بوعي وحصافة موقعها مع الوطن بقطع النظر عن الخيبات السياسية المتتالية. ولقد لخص الرجل البسيط أبو الفتاة الزهرة التي قصفت بشظية غادرة (بلادنا قبل أولادنا. وطني قبل بطني) ولم نر في ما صدر وعيا أكثر حدة من هذا الوعي المباشر بالوطن. لكن في مقابل ذلك يغيب وعي نخب أخرى تفتخر بشهائدها العلمية وتستثمر في الدم.
خبراء توسيع الشرخ الوطني
في قمة المعركة عسكر مجموعة من الخبراء في القنوات التلفزية والإذاعية يروجون لأطروحة بعيدة كل البعد عما يجب أن يكون عليه الإعلام الوطني وقت المعركة.
تقوم هذه الأطروحة على أن الإرهاب ولد في تونس بعد الثورة لا قبلها. وأنه لقي دعما وإسنادا من حكومة النهضة والرئيس المرزوقي (لا يثار اسم بن جعفر). بما يرسخ عند مشاهدهم أن النهضة والمرزوقي (اللذين لم يعودا أصدقاء بالمناسبة) هما الذين زرعا الإرهاب في تونس وأن كل ما يجري من نتيجة سوء تدبيرهما الخبيث.
الأطروحة مغالطة وتبحث عن تحريف الوعي وتشتغل طبقا لأجندة لها ممولون وغرفة عمليات. عينها فيما اعتقد على الانتخابات القادمة إذا لم يفلح الإرهاب في إلغائها بدواع أمنية. واعتقد أنها أطروحة تلتقي مع مهام الإرهاب أكثر من المتهمين بخلقه.
مصدر المغالطة أن الإرهاب ضرب تونس زمن بن علي أي حين بروز ظاهرة الإرهاب المعولم وليس بعد الثورة. وثانيا بوادر العفو والتسامح مع الإرهابيين بدأت مع حكومة محمد الغنوشي وحكومة الباجي 2011 وكانت الروح السائدة حينها هي روح الثورة المتسامحة التي لم تحاسب التجمعيين وأطلقت سراح الإرهابيين. ورغم أن الإرهاب ضرب ضربتين كبيرتين حينها إلا أن أطروحة اتهام النهضة تغفل ذلك وتركز على نشاط السلفية وقت حكم الترويكا. كما ضرب الإرهاب أكبر ضرباته بعد سقوط الترويكا.
حول نفس البلاتو الإعلامي ينتهي الخبير الأول إلى أن المسئول الوحيد على الإرهاب هي النهضة. فيكمل الخبير الثاني يجب حل حكومة الحبيب الصيد (التي تسندها النهضة) وإعلان حكومة طوارئ (بدون النهضة المجرمة)، فيكمل الخبير الثالث أن حكومة الطوارئ يجب أن تمتلك صلاحيات فوق البرلمان وفوق الأحزاب (يمكنها حل الأحزاب لضرورات الحرب) وإطلاق يد الأمن والجيش في أثر الإرهابيين بما في ذلك تجاوز كل السلطات القضائية وردا لاعتراض محتمل حول استقلال القضاء يتدخل الخبير الرابع بأن القضاء التونسي متخصص في إطلاق سراح الإرهابيين. وتكتمل الدائرة بمنشّط الحوار. فيذكر بسيادة الدولة والحاجة إلى الأمن لخلق مناخ الاستثمار. دون أن يشعر الحضور بتناقض بين القول بحكومة طوارئ وتحفيز الاستثمار. ودون أن يرف لهم جفن حول المغالطات التاريخية التي يبنون عليها التحليل.
جوقة محترفة لغاية معلومة ومكشوفة مهمتها العمل على أحد أمرين:
(1) إما خلق واقع سياسي لا يؤدي إلى أي موعد انتخابي بدعوى فقدان الاستقرار. وبالتالي الدخول تحت حكومات غير منتخبة تتالى دون أفق ديمقراطي. وهو ما يعني نسف مكتسبات المسار الانتقالي وأولها نسف الدستور والتمهيد لدكتاتورية غاشمة أخرى. ووراء هذا مشروع استئصالي نعرف ضحيته. ونعرف المستفيدين منه.
(2) أو تهرئة السمعة السياسية وإضعاف احتمالات الفوز الانتخابي لحزب النهضة (الحزب الوحيد القائم فعليا على الساحة) قبل أن يصل إلى دورة انتخابية أخرى (يبدو أنه الوحيد الذي يستعد لها على الأرض).
في الحالتين هناك أجندة معادية للمسار الديمقراطي ومنجزاته رغم أنه المسار الذي أنتج هذا التكاتف العجيب حول مؤسسات الدفاع والأمن بعد أن كانت تحت الدكتاتورية مؤسسات قمع مكروهة. وهذا ما اسميه الاستثمار في الدم والذي بدأ منذ الاغتيال السياسي الأول إذ أنه بعد من أقل ساعة من استشهاد بلعيد خرجت هذه الأصوات لتطالب بإسقاط المسار التأسيسي برمته (لم تكن هذه الأصوات كلها من حزب بلعيد ولكن دمه كان مفيدا لها). وهي نفس التي تطالب الآن بحكومة طوارئ وإسقاط المسار الانتخابي ومخرجاته.
إن من يستعمل المعركة الوطنية ضد الإرهاب في وقت حرج تقف فيه قواتنا على خط النار لتغنم منها مكسبا حزبيا ظرفيا وعابرا يكسر الصف الوطني ويظهر للناس (القوة الناخبة بالقوة) أنه في موضع الخائن لا في موضع الوطني.
لذلك أرى في هذه الفرز السريع مؤشرات إيجابية تعبر عن الثورة المتقدمة بهدوء وسلاسة. إنها عملية من خطين (ينتجان الدولة المنتظرة من العملية الديمقراطية).
(1) تحديد المعادين للديمقراطية الوليدة والتي هي استمرار للمسار التأسيسي وتثبيت لمخرجاته (هذا لا يشترط التسليم بأنه مسار خال من العيوب).
(2) تبيئة المؤسسات التي كانت مكروهة في قلوب شعبها لأنها كانت قمعية وفي خدمة السلطة فقط (دون التسليم بأنها صارت مؤسسات جمهورية مكتملة).
خط تحرير مع المعركة لا ضدها
توجد ملفات سياسية متخلدة بذمة الطبقة السياسية يجب الإجابة عنها بوضوح وشجاعة ومسؤولية خاصة ملف الاغتيالات لكي لا يكون الإرهاب ذريعة للهروب من هذه الاستحقاقات. لكني لست ممن يقولون باختلاق المعارك مع الإرهاب للتغطية على الملفات السياسية. لذلك فالسؤال الذي يجب أن يطرح وقت المعركة:
كيف نتصدى معا للهجوم الغادر (والمتكرر) وما هو خط التحرير الذي يجب أن نتخذه جميعنا وما هي المفاهيم والاصطلاحات الإعلامية الواجبة أثناء المعركة.
الجيش والأمن ينتظران صفا متماسكا خلفهما ليتقدما بالشجاعة والطمأنينة اللازمة لقلب النزال. لكن الذي جرى (والذي سيجري للأسف في عمليات لاحقة لا نشك في حصولها) هو أن الاستثمار السياسي في الدماء يقسم الصف الوطني. نعتقد أن هذا الاستثمار خاطئ في مقصده وفي توقيته وفي أداوته، ويخذل المعركة.
لكنه سيكون مفيدا في خط تقدم الثورة من حيث أنه عملية فرز حقيقية للصفوف. لأن المؤسسة العسكرية والأمنية والشارع المتلاحم حولها عرفوا جميعا من يخذّل خلفهم ويشتت الصفوف.
هذا هو الفرز الحقيقي الذي نعتبره جزءا من الثورة. فالخطاب الثوري أول الثورة خدع الكثيرين ولكن المطاولة كشفت المخذلين الذين لم يؤمنوا أبدا بالثورة ولا بقدرتها التغيرية الفعالة.
لقد جرى الجزء الدموي من المعركة في بن قردان لكن الجزء غير الدموي جرى في الموائد التلفزية العامرة بالأكاذيب من طرف خبراء صرنا نعرف زيفهم فحتى شهاداتهم الجامعية تبين أنها مسروقة. للثورة نفس طويل كما الزيتون في نموه، وللكَذَبَة عمر الذباب على الموائد. إنه الفرز بأرواح الشهداء المقدسة. وهذا من الثورة.