أياما بعد خروجه من المعتقل بسبب نشاطه السياسي في بدايات الحراك السوري، يتابع حسين نشرة أخبار تنقل خبر مقتل من عُرِف بعراب مصوري الثورة باسل شحادة وأحد تلامذته. يصرخ حسين ويرمي بجهاز التلفزيون من أعلى محدثا صوتا أقرب إلى انفجار. يفتح حسين غرفة أحد زملائه.
حسين: شو؟ نايم يا ابن الجولان؟ أعطيني ها السلم!
يأخذ السلم ويخرج صاعدا إلى الطابق العلوي.
الملاكم
الفلسطيني: حسين، لوين؟
حسين: لعند الله.
صعد حسين إلى سطح البيت الشامي الذي يأويه وعدد من زملائه فتبعه هؤلاء. وضع حسين السلم في اتجاه الفضاء وبدأ في الصعود مسنودا بالآخرين.
حسين: (بعد أن وصل لأعلى) رددوا وراي.. حرية (بأعلى صوته)
انفجار وظلام على الشاشة.
كان ذاك المشهد الأخير من فيلم (سُلّم إلى دمشق) المنتج في العام 2013 للمخرج محمد ملص.
كسر حسين التلفزيون بعد أن تحولت نشرات أخباره، كما الصفحات الأولى للجرائد والمواقع الإلكترونية، إلى مجرد مقابر جماعية لتعداد الأرواح التي سقطت بسوريا ولا تزال تعذيبا وقنصا وبراميل متفجرة وجوعا.
وعلى خلفية نفس التلفزيون يستمع والد غالية، ضابط الجيش السابق المسرّح من الخدمة، في ذات الفيلم، لخطاب يلقيه بشار الأسد أمام مجلس الشعب، الذي كان عدل قبل سنوات ما يسمى دستور الجمهورية العربية السورية في مادته المحددة لسن رئيس الجمهورية في الأربعين وخفضته ليتطابق مع سن بشار في مشهد ديمقراطي خالد كما الوالد حافظ الأسد. لم يكن بشار يبلغ يومها سن "الحلم الدستوري" لخلافة الأسد المتوفى لكنه اليوم استأسد، بدعم من حلفائه، على كل من يرفع صوته مناديا بالحرية تماما كما فعل حسين في المشهد أعلاه.
يقول بشار الأسد: ولمحت معاناة بجوانب عدة بعضها مرتبط بالجانب المعاشي والخدمي وبعضها متعلق بالمساس بكرامة المواطن أو بتجاهل آرائه أو إقصائه عن المشاركة في مسيرة البناء. أما الفساد فلمست الرغبة العامة في اجتثاثه كسبب رئيسي لأسباب عدم تكافؤ الفرص وافتقاد العدالة وما يولده من شعور بالغبن والقهر عدا عن تداعياته الأخلاقية الخطيرة على المجتمع. والأخطر من كل ذلك هو ما أوجده الفساد من تفرقة وتمييز غير عاديين بين المواطنين على أسس ضيقة بغيضة...
تابع والد غالية الخطاب بغير قليل من الاستهجان.
والد غالية: ولك فخختوا البلد وعملتوا منه حقل ألغام حتى تحولوا كل تمرد لفتنة.
لقد نجح النظام الأسدي في تغذية الأحقاد والمخاوف بين طوائف
الشعب السوري، وتحول هذا التنوع من فرصة إلى نقمة استطاع النظام النفاذ منها لبث التفرقة بين أبناء الوطن الواحد بل أظهر نفسه ضامنا لحقوق ما يسمى "
الأقليات". وما كان لذلك أن ينجح لولا المساعدة القيمة التي تلقاها من جماعات مسلحة دخيلة لم تجد في الإسلام غير "تطبيق الحدود" فاختصرت الدين الإسلامي في قانون عقوبات منتقى بعناية غريبة.
كما أن ما شهدته بعض دول الجوار، وعلى رأسها العراق "الحر"، ساهم في إشعال فتيل الحروب الطائفية التي ظلت لسنوات باردة قبل أن تستعر وتظهر للعلن في أفظع حللها.
عندما بدأ الحراك السوري حذر كثيرون من محاولات النظام إشعال فتيل الطائفية واعتمادها سلاحا هاما لوأد أي سعي للتغيير والتمرد على الاستبداد والقهر. لكن واقع الحال يظهر كيف تحققت النبوءة على طول خمس سنوات من ثورة تحولت لحرب أهلية وقودها تصفية حسابات إقليمية ودولية في بلد أتقن لعقود تصفية حساباته على أراضي الغير قبل أن يصير رحى المعركة وميدانها.
في
سوريا خبا صوت الحراك السلمي وترك المجال ليُسمِع السلاح صوته سوريا كان أو روسيا أو فارسيا أو متعدد جنسيات.
تجلس غالية، بطلة فيلم (سُلّم إلى دمشق)، بجانب والدها ضابط الجيش السابق. لا حوار يدور بين الاثنين.
غالية (في حوار داخلي): قديش بتذكر كنت صغيرة كيف كان يوقف قدام المراية ويسمح النجوم ايلي على أكتافه ويقول لي: هو الأمل، هو المستقبل. أيامها كان يزهو كلما زادت النجوم الذهب على أكتافه ويقول لأمي ويصرخ مو بدنا نحرر فلسطين وبس، بدنا نحرر الوطن العربي كله.
يرمي الوالد بكأسه في النار الموقدة أمامه ويضحك في تهكم وكأنه رد مناسب على ما جال في خاطر ابنته.
لقد كانت لهيمنة الجيش على مناحي الحياة بسوريا، كغالبية الدول العربية، وقع التجريف التام لأية ديناميكية سياسية يمكنها أن تتولى تأطير وتدبير الخلاف على السلطة مهما احتد الصراع. لأجل ذلك، يصير تحويل السلاح من وجهته الخارجية إلى الداخل الحل الوحيد الذي يجده النظام العسكري في مواجهة أي حراك أو تمرد يراه خطرا على سيطرته على مفاصل الدولة بشقيها "المدني" والعسكري واستعباده للمواطنين دون كثير تمييز.
في فيلم (أحلام المدينة) للمخرج محمد ملص، الذي أنتج سنة 1984، استعادة للحياة السياسية المدنية التي عاشتها سوريا خمسينيات القرن الماضي. وفيه نتابع أطفالا صغارا يتأنقون يوم عيد الجلاء لحضور العرض العسكري، وهم يستمعون للرئيس يخاطبهم بالقول: إن وطنا أنتم أبناؤه لا يموت وإن أمة أنتم جنودها لا تخضع ولا تذل. عشتم وعاشت البلاد العربية حرة عزيزة كريمة.
هم اليوم كهول هذه المرحلة فرقتهم السبل في الغالب، لكن الوجع السوري يجمعهم، دون شك، وهم يرون كيف انتهى المطاف بالجيش العربي السوري يقتّل أبناء الوطن ويستعين عليهم بالروس والفرس وكثيرون آخرون، وكيف صارت البلاد العربية مجرد مستعمَرة وأبعد ما تكون عن العزة والكرامة.
يصرخ الطفل عمر، في فيلم (أحلام المدينة)، وهو يصل إلى دمشق عبر حافلة ركاب.
عمر: يا الله ما أحلى الشام.. تعالي اطلعي.. هاي الشام يا أمي.. تعالي اطلعي.. يا الله ما أحلى الشام يا أمي.. يا الله.
بعد نصف قرن من ذلك التاريخ، نشاهد والد غالية، وهو بالتأكيد من جيل الطفل عمر، في فيلم (سُلّم إلى دمشق) للمخرج نفسه، وهو يسأل ابنته بعد عودتها من دمشق في زيارة عائلية.
والد غالية: ما قلتي لي كيف الشام؟
غالية: يا بيي في الشام الناس تعبانة وخايفة. عينك تشوف الوجوه كيف صايرة.
والد غالية: ما عاد فيه أمل بشيء. ما في أمل. ضاعت الطاسة
وفي خلفية الشريط الصوتي للفيلم الأول خُطب زعماء ذاك الزمن حيث نسمع أديب الشيشاقلي وهو يخاطب الشعب من جهاز الراديو: من أجل ذلك وحقنا لدماء الشعب الذي أحبه والجيش الذي أفتديه أقدم استقالتي من رئاسة الجمهورية إلى الشعب السوري العزيز راجيا أن يكون في ذلك خدمة لبلادي.
كان الشعب السوري يومها ينام ويستيقظ على انقلاب قبل أن يصل حافظ الأسد لسدة الحكم انقلابا ويأمم الدولة لعائلته وعشيرته وجيشه الأسدي.
اليوم لا يتورع
وليد المعلم ووفد النظام المفاوض من التشدق من أن مقام الرئاسة وشخص الأسد الصغير ليس محل نقاش، وكل ما يقدمه حلا للكارثة التي حلت بالبلد مطالبته رئيس وفد المعارضة بحلاقة ذقنه التي اعتبرها الأخير "مرخصة من وزارة الأوقاف" وكأن في ذلك حل الأزمة الذي طال انتظاره.
في فيلم (سُلّم إلى دمشق) جمع بيت شامي أصيل شبابا من مختلف أطياف المجتمع السوري، وفي فيلم (الليل الطويل) للمخرج حاتم علي المنتج في العام 2009، لم يستطع بيت الوالد/السجين السياسي لم شمل الأبناء بعد أن فرقتهم دروب الحياة واختلاف الطموحات والأهداف. وبعد كل الذي شهدته الشام، أيمكن لبيت أو شارع أو حي أو مدينة أو وطن أن يضم أطياف المجتمع السوري تحت سقف واحد؟ وهل يمكن للكبت السياسي أن يفسر ما تعيشه سوريا اليوم؟
وإذا كان الكبت السياسي قد أفرز ما عليه سوريا اليوم، فأي مصير ينتظر سوريا الغد وما بعد الغد؟ هل ستنطلق الأحقاد مجددا بعد انتهاء الليل الطويل أم أن البلد قادر على قراءة جيدة لتاريخه منطلَقا لبناء رشيد؟ أم أن المشهد سيختصره طابور يقف فيه من تبقى من أبناء سوريا على قيد الحياة لتلقي العزاء في بلد كان اسمها سوريا ولم تزل؟
يتبع....
الجزء الثاني: الصعود إلى قاع الكارثة... الليل الطويل (2)