ما كان للفكر الإنساني عبر كل تطوراته وتراكماته أن يمر على ظاهرة الحروب ودوافعها وآثارها ونتائجها مرورا عابرا أو سريعا. وما كان تطور الحياة البشرية على الأرض إلا كنتيجة لفكرة الحرب التي شبهها هيجل الفيلسوف الألماني الشهير بـ"الرياح العاتية التي تحفظ الانهار من الأوساخ والرواسب النتنة".. وصدق من قال إن تاريخ البشرية هو تاريخ الحروب بين البشر.. أحد أهم نتائج الحروب وتطورها هو تكون الجيوش والنظم العسكرية وقيام ظاهرة لها تأثيراتها الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية اسمها (الظاهرة العسكرية)..
يعود اهتمام المفكرين وعلماء السياسة بـ(الظاهرة العسكرية) إلى عهود قديمة فقد نظر أفلاطون نظرة دونية إلى نظم الحكم التى تستند إلى أساس واحد من الأسس (الأربعة) المشهورة: القوة (أي الجيش) والثروة والعدد (الديمقراطية) والكاريزما (النظام الشخصي).. أفلاطون لم يرَ الدور المرعب لأجهزة الإعلام في تفريغ فكرة الديمقراطية من محتواها الحقيقي.. ولا دورها في صنع (الزعيم الكاريزمي) الذي يتحول إلى (هُبل) العصور الحديثة..
أرسطو بدوره كان يرى أن النظام السياسي يستند إلى قاعدتين: (العسكريون) من ناحية و(المشرعون) من ناحية أخرى.. ابن خلدون المنظر التاريخي (لدولة العصبية) -سامحه الله- كان يرى أولوية القلم (الفكر والتشريع) على السيف خصوصا بعد استقرار نظام الحكم..
ولم يقتصر اهتمام العلماء بالعسكريين فقط على دراسة دورهم في النظام السياسي وعلاقتهم ببقية القوى السياسية فيه وإنما امتد كذلك إلى تصنيف النظم السياسية والاجتماعية ما بين نظم (ديمقراطية) يقف فيها الجيش على (الحياد) ويؤدى وظيفة عسكرية احترافية.. وبين نظم (بوليسية) يتولى فيها العسكريون السلطة باعتبارهم المتخصصين في العنف..
سنكتشف فى أدبيات اليسار أن (لينين) كان يرى أنه (لايمكن اعتبارالقوات المسلحة محايدة وينبغي ألا تكون وأن عدم جذبها إلى السياسة هو شعار خدم البرجوازية والقيصرية والمنافقين الذين يجذبون القوات المسلحة دائما إلى السياسة الرجعية) ولعل هذا يفسر مواقف اليساريين والقوميين -بعد أن أعادوا (تموضعهم)- مما يحدث الآن في وطننا الحبيب.. بغض النظر عن ادعاءاتهم (الديمقراطية) التي سقطت سقوطا مريعا في أول اختبار قومي (من التمجيد النظري للحرية إلى الغوص في العبودية السياسية المطلقة).
كثير من الباحثين يرون أن هناك ذرائع وأسباب تدعو العسكريين إلى التدخل المباشر في السياسة وهي:
1 ـ ضعف المجتمع وغياب فكرة التماسك الاجتماعي..حيث المؤسسات القوية والأحزاب التاريخية والنقابات والجمعيات الأهلية.
2 ـ التفكك الطبقي وقد شهدت أوروبا ذلك خلال مراحل تطورها الأولى (التراكم الكمي لتجربة الديمقراطية السياسية) واستطاعت تطوير بنيانها الاجتماعي والطبقي في أعقاب الثورة الصناعية بصورة اتضحت معها خطوط التمييز بين الطبقات المختلفة.. يقولون إن أهم أسباب رسوخ الديمقراطية الإنجليزية هو رسوخ التكوين الطبقي في المجتمع.
3 ـ تدهور مستوى العمل الاجتماعي والتنموي والعجز عن تعبئة الموارد اللازمة لعملية التحديث والتقدم حين تفشل الدولة في إيجاد رموز وخطط عامة للعمل الاجتماعي وحينما تفتقد ـ نتيجة ما سبق ـ للتأييد.
4 ـ انهياروتدهورالسلطة السياسية إلى درجة (انكشاف النظام السياسي) الجيش في هذه الحالة يستهدف إعادة بناء السلطة السياسية.. على نفس النسق التاريخي الذي كانت عليه!! عادة ما يرتبط انهيار السلطة السياسية بغياب الطبقة المتوسطة وضعف تواجدها السياسي في المجتمع أو بالأحرى غياه.. ومن ثم ينهار التوازن السياسي القائم ويحاول الجيش قيادة النظام السياسي إلى توازن جديد.. تاريخيا.. يجب أن نضع في الاعتبار أن انهيار السلطة السياسية لا يعنى بالضرورة انقضاض الجيش على تلك السلطة.. قد يقف مراقبا ومشيرا وناصحا.. أو حتى حكما بين الفرقاء إلى حين استعادة العافية السياسية للدولة والمجتمع.
قد يكون حسن النية وراء العسكريون وهم ينظرون إلى السياسة في بلادهم باعتبارها أحد المجالات التى يمكن أن يدلوا فيها بدلوهم خاصة إذا كانوا يشعرون (بأبوة مانحة..
مصر/ يوليو 52) بالإضافة إلى مهمتهم الأصلية المتعلقة بالدفاع والأمن وهم ينطلقون في ذلك من قناعتين تتعلق الأولى بأنهم أقدرمن المدنيين كافة فى إقامة النظام وتحقيق الاستقرار وتتعلق الثانية بعدم ثقتهم في فاعلية الجماهير وكفاءتها.
ستنبئنا تجارب التاريخ أنه.. إذا أراد العسكريون -بحق- الإسهام في (التنمية السياسية) في أوطانهم فعليهم الاعتصام والمرابطة في ثكناتهم وإتاحة الفرصة للمدنيين والسياسيين للقيام (بواجب الضرورة) وتحمل مسولياتهم السياسية والتنظيمية أسوة بنظرائهم في الدول المتقدمة وتحقيق فكرة (التراكم التاريخي) للتجربة الديمقراطية وتحولها النوعي من الحالة الكمية إلى حالة الكيفية تماسكا واستقامة...
إلا أن تجارب التاريخ أيضا علمتنا أن تبوؤ العسكريين السلطة المدنية يغريهم بالتمادي في الإمساك بها ورفضهم التنازل عنها بسهولة..
كلهم يعرفون الحقيقة.. لكن قليلا منهم فقط يعرفون الدروب التي تقود إليها.