تسليم معظم الأطراف المتصارعة والمتداخلة في المحنة السورية بأن الحل سلمي وليس عسكريا، كانت أول ترجمة عملية له جلوس ممثلي النظام السوري ومعارضيه معا إلى طاولة مفاوضات برعاية الأمم المتحدة وتفاهم أمريكي – روسي.
غير أن هناك علامات تضعف من احتمال تحقيق نتائج إيجابية في المدى القريب. وآخرها ما أعلنه «حزب الله» على لسان أمينه العام، بأن الحزب سوف يمضي في محاربته لـ«داعش» والنصرة والجماعات الأخرى إلى النهاية، بالإضافة إلى تصريح رئيس النظام السوري بشار الأسد بأن المعركة مستمرة، واستئناف الطيران الروسي غاراته على مواقع المعارضة «رغم إعلان بوتين سحب قواته»(؟) وما راحت تتعرض له دول أوروبية من عمليات إرهابية موقعة بإمضاء «داعش».
في الواقع لم يعد القتال والتقاتل في سوريا مقتصرا على نظام أقلوي مستبد ومعارضيه المدنيين والمقاتلين، بل تطور إلى حروب بالوكالة، إقليمية ودولية، تتحكم في مجراها وأهدافها القريبة والبعيدة عوامل ومصالح أكبر من مصلحة الوطن والكيان والشعب السوري، أيا كان تحديد أو مفهوم هذه المصلحة. مع العلم أن تأثيرها على أطراف القتال لا يستهان به، إن لم يكن هو الحاسم في النهاية.
ثمة أولوية تبدو، في الظاهر، متفقا عليها من معظم الأطراف، ألا وهي تحجيم «دولة داعش» تمهيدا للقضاء عليها. ولكن المفارقة أن الذين يسلمون بأن التغلب عليها - وغيرها من القوى والتنظيمات الإرهابية، لا يتحقق عن طريق الغارات الجوية، بل بواسطة جيوش على الأرض. وباستثناء المغامرة العسكرية الروسية - ليس هناك دول كبرى ممن تملك قوة عسكرية قادرة على سحق «داعش» عسكريا، ونعني بالذات الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، تريد إرسال قوات برية لمقاتلتها في سوريا والعراق. بل إنها باتت تخشى على سلامتها الداخلية من جراء العمليات الإرهابية، التي قام بها - أو سيقوم - بها داعشيون في أراضيها.
إن مفاوضات جنيف بين ممثلي النظام السوري ومعارضيه ستطول أكثر مما يتصور البعض. وعلى الأقل إلى ما بعد انتخاب الرئيس الأمريكي الجديد. كما أن الحرب على الإرهاب التي تحولت إلى حروب إقليمية ودولية من نوع جديد، تتلاقى فيها دول كانت إلى الأمس القريب، وربما ما زالت، تعد فيها نفسها متعادية أو تفترق فيها دول كانت وماتزال تعدّ نفسها صديقة أو حليفة.
إن بقاء النظام السوري الراهن حاكما بعد حرب أهلية لم ينتصر فيها، وكلفت الشعب السوري مئات آلاف القتلى وملايين المشردين من ديارهم ومنازلهم وتهديم عشرات ألوف المباني والمنازل، أمر غير معقول في نظر أي إنسان أو ضمير في العالم. ولكن من يقنع أو يجبر إيران وروسيا على التخلي عن النظام السوري وتركه يسقط؟ ومن وكيف يحال دون حلول «داعش» والتنظيمات المتطرفة محل النظام في حال سقوطه أو إسقاطه؟
من هنا عاد الحديث عن التقسيم والفيدرالية والانفصالية وإعادة رسم خريطة جديدة للدول في الشرق الأدنى. كما ارتفعت، مقابلها، الأصوات الرافضة لأي تغيير في الكيانات الوطنية الراهنة، رغم كل ما لحق بها من تمزق وانقسامات طائفية ومذهبية وعرقية. فالتقسيم من شأنه خلق منطلقات جديدة لتضارب مصالح، ولعداوات تمهد لحروب مستقبلية في الشرق الأوسط.
قد تنكشف في المستقبل كل أسرار هذا الصعود السريع لـ«داعش»، والجهات التي مولته وسلحته ومكنته من احتلال ما احتله من أراضي سوريا والعراق. فبعضها معروف ولكن هناك «بعض آخر» نجح في تحويل انتفاضة الشعبين السوري والعراقي ضد الظلم والقهر والاستبداد، إلى قضية إقليمية ودولية أولويتها القضاء على الإرهاب. ولكن بانتظار هذا المستقبل غير القريب يستمر سفك دماء عشرات ألوف الأبرياء، نساء وأطفالا ومسنين، وتشرد مئات الألوف من العرب والمسلمين على دروب أوروبا. ويتحول المسلمون – والإسلام - في نظر الأوروبيين والغربيين إلى خطر يهدد أمنهم وحياتهم وحضارتهم.
لقد أرسلت روسيا قوة عسكرية ضخمة إلى سوريا دعما لنظام الأسد، ثم سحبتها (لم يعرف نوع أو حجم هذا الانسحاب). كما أرسلت الولايات المتحدة مائتي جندي من المارينز «لتدريب القوات العراقية» - كما تقول. ثم اتفقتا على دعوة النظام والمعارضة السورية للجلوس إلى طاولة المفاوضات والعثور على حل سياسي للمحنة، التي تغرق فيها سوريا أكثر فأكثر كل يوم.
ترانا أمام عجز عن إيجاد أي حل سياسي للمحنة السورية والمحن الأخرى التي تمزق العراق وليبيا واليمن؟ أم تراها الحرب الباردة الدولية الجديدة، هي التي تتحكم فيما حدث أو يحدث في هذه الدول؟ أم إن نهاية الأمر هو رسم حدود جديدة للدول في المنطقة، سمها حكما ذاتيا أم انفصالا أم فيدرالية؟ وهذا ما يرفضه اللاعبون بمصير المنطقة، باستثناء إسرائيل الرابحة الكبرى، من جراء ما حل بالعرب والعروبة.
عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية