كتب فهمي هويدي: توجه القائم بأعمال رئيس جهاز المحاسبات إلى مكتبه في الثانية والنصف صباحا، بعد مضي ثلاث ساعات على إقالة سلفه المستشار
هشام جنينة. بعد وصوله وجه بتشكيل لجنة ضمت بعض أعضاء الجهاز للقيام بعدة مهام. على رأسها جرد المكتب الخاص للمستشار جنينة والسكرتارية والمكتب الفني ومديري المكتب.
أعضاء اللجنة المذكورة جرى استدعاؤهم هاتفيا وأبلغوا بالمهام الموكولة إليهم، بحيث وصلوا إلى مقر الجهاز قبل الساعة الثامنة صباحا، وفي حين كانوا يؤدون المهام التي كلفوا بها فإن المستشار هشام بدوي القائم بالأعمال عقد اجتماعا مع وكلاء الجهاز لترتيب السيطرة على الموقف في الوقت ذاته، أصدر تعليماته بمنع دخول هيئة مكتب المستشار جنينة إلى مكاتبهم.
أفراد الأمن نفذوا التعليمات بإغلاق الطابق الأول من مبنى الجهاز الذي يضم مكتب جنينة والمكاتب الأخرى الملحقة به. طُلِب من الموظفين الذين فوجئوا بالغارة أن يجلسوا في قاعة بعيدة عن مكاتبهم أثناء عملية التفتيش. كان عددهم 20 موظفا بالمكتب الفني و15 بالمكتب الإداري. خلال عدة ساعات كان أعضاء لجنة الجرد قد أنهوا عملية التفتيش وتم التحفظ على جميع الأوراق والملفات الموجودة بالمكاتب.
ما سبق وصف شبه تفصيلي أوردته جريدة «
المصري اليوم» على صفحتها الأولى أمس (30/3) لما حدث في مقر الجهاز المركزي للمحاسبات عقب إعلان قرار إقالة المستشار هشام جنينة من منصبه كرئيس للجهاز.
وأثار انتباهي أن التقرير المنشور اشترك في كتابته ثلاثة من محرري الجريدة، إلا أن جريدة «الشروق» نشرت نفيا لواقعة «احتجاز» 50 موظفا من «الموالين لـ جنينة»، جاء على لسان القائم بأعمال رئيس الجهاز، وهو ما قد لا يتعارض مع ما نشرته المصري اليوم لأنها لم تتحدث عن «احتجاز» موظفي مكتب المستشار جنينة وإنما أشارت إلى منعهم من دخول مكاتبهم والإبقاء عليهم في قاعة بعيدة عنها، حتى انتهاء عملية الجرد والتحفظ على ما فيها من أوراق.
أيا كان الأمر، فإن رواية «المصري اليوم» إذا صحت فإنها تقدم لنا مشهدا بوليسيا يعيد إلى أذهاننا ما تنشره الصحف عن حملات اقتحام البؤر الإرهابية بحيث لا ينقص الرواية سوى أسطر قليلة تتحدث عن «تصفية» المستشار جنينة في تبادل لإطلاق النار مع المجموعة التي كلفت بتحرير جهاز المحاسبات من مكمنه الذي تحصن فيه.
في الظروف العادية وفي البلاد المحترمة يغادر رئيس أهم جهاز لمكافحة الفساد موقعه محاطا بما يستحقه من تقدير، ويستقبل خَلَفه في مكتبه لكي يسلمه «الأمانة» وينقل إليه عصارة خبرته في موقعه. وأحيانا يقام له حفل تكريم على ما بذله من جهد. أما هذا الذي حدث فهو لا يمثل إهانة للرجل فقط لكنه إهانة للمنصب الرفيع وللدولة التي لابد أن تختلف في معاملاتها وتقاليدها عن سلوك الميليشيا أو العصابة.
تشويه الرجل في وسائل الإعلام مشهد آخر لا يليق خصوصا إذا اقترن بحرمانه من الدفاع عن نفسه أو تبيان وجهة نظره فيما نسب إليه، لا أتحدث هنا عن المروءة أو الشهامة أو حتى أبسط قواعد العدالة في دولة القانون. وإنما أتحدث عن المسؤولية الأخلاقية من ناحية وعن احترام مؤسسات الدولة والحفاظ على هيبتها من ناحية ثانية. لقد طعن في بيانات الفساد التي أعلنها الرجل ولم يسمح له بأن يتلقى نص التقرير الذي انتقده ولم يسمح له بأن يرد على الادعاءات التي نقلتها منه وسائل الإعلام وفي حين لم يسمح له بشرح وجهة نظره أمام مجلس النواب، فإن النائب العام أصدر قرارا بحظر النشر في الموضوع. وكأن المسموح به هو التشهير بالرجل فقط والنيل منه لمجرد أنه امتلك شجاعة فضح الفساد في كل مصادره التي توصل إليها جهازه.
في هذا السياق، خصصت صحيفة «الوطن» أمس صفحتين لهجاء المستشار جنينة والحديث عن «خطاياه» والمعارك التي خاضها، التي كان منها الإساءة لمؤسسات الدولة وإضعاف هيبتها وتسريب معلومات سرية لقناة الجزيرة.. إلخ. إلى غير ذلك من الادعاءات التي تؤدي مهمة تصفية الرجل واغتياله سياسيا وأدبيا، وحين يستباح على ذلك النحو ثم يحرم من الدفاع عن نفسه فإن هيبة الدولة وقيمة العدالة فيها هي التي تلحقها الإهانة وليس الرجل وحده.
«الأهرام» شاركت في الحملة بصورة محزنة، حين نسبت إلى بعض السياسيين قولهم إن مهمة الأجهزة الرقابية تقتصر على تقديم تقارير مكافحة الفساد للجهات المعنية وليس للإعلام. وهو العنوان الذي أبرزته الصحيفة على صفحتها الأولى أمس، وذلك غمز غير مباشر في المستشار جنينة الذي تحدث إلى وسائل الإعلام وخاطب الرأي العام بخصوص وقائع الفساد، قبل انتخاب مجلس النواب.
وهذه الدعوة التي أبرزتها الأهرام لا تختلف كثيرا عن فكرة «المناصحة» التي طرحت في بعض الدول المجاورة واستهدفت تكميم الأفواه ومطالبة أصحاب الآراء المغايرة بمخاطبة السلطات وحدها وتوجيه النصح لها، والكف عن الجهر بتلك الآراء وإطلاع الرأي العام عليها. كما أن الجريدة تجاهلت أن دستور 2012 كان قد نص في المادة 201 منه على «وجوب» نشر تقارير الهيئات المستقلة على الرأي العام، احتراما لحقه في المعرفة والمشاركة. في حين أن ما دعت إليه الأهرام يمثل ازدراء بالرأي العام واستعلاء عليه. عند الحد الأدنى فإن ما سبق يسوغ لنا أن نردد بصوت عال قول من قال «مايصحش كده»!
(عن الشرق القطرية)