بينما عمّت "
وثائق بنما" أرجاء العالم، من الصين إلى
روسيا مرورا ببريطانيا والشرق الأوسط، وشملت مجموعة واسعة من المسؤولين والشخصيات الكبيرة، تمكنت الولايات المتحدة، الطرف الأساسي في النظام المالي العالمي، من أن تبقى غائبة بصورة ملفتة عنها.
ولم تشر الوثائق المسربة سوى إلى عدد ضئيل من الأمريكيين، المشتبه بنقلهم قسما من أموالهم إلى ملاذات ضريبية، وشركات وهمية (أوفشور) بمساعدة شركة الخدمات المالية البنمية "موساك فونسيكا" التي أصبحت حديث العالم أجمع خلال الأيام الماضية، من بينهم المغني ديفيد غيفن، وسط غياب واضح لأي شخصية كبرى أمريكية، سواء من السياسة أو الأعمال أو المصارف.
"لاعب هام"
وقالت مارينا ووكر غيفارا، مساعدة مدير "الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين" الذي نسق التحقيق الصحافي حول مجموعة الوثائق الضخمة إن "هناك العديد من الأمريكيين، لكنهم بمعظمهم أفراد عاديون".
واستدركت غيفارا، بتصريحات لوكالة الأنباء الفرنسية، بقولها إن "هذا لا يعني أن البلد يبقى خارج نظام الشركات الأوفشور، بل هو لاعب هام فيه".
غياب إعلامي
ولم يكن ملفتا غياب أمريكا عن الوثائق نفسها وحسب، بل كان من الملفت كذلك غياب وثائق بنما عن الصحف الأمريكية نفسها.
ففي الوقت الذي تصدرت به وثائق بنما وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة في العالم أجمع، بدا أن هذه الوثائق ليست حدثا هاما في أمريكا غداة الإعلان عنها.
ومن بين 10 صحف أمريكية كبرى (من بينها نيويورك تايمز، وول ستريت جورنال، لوس أنجلوس تايمز)، لم تتصدر الوثائق الصفحة الأولى للصحف الأمريكية، سوى في صحيفتين، هما "واشنطن بوست" التي أفردت لها زاوية صغيرة في الصفحة الأولى، وصحيفة "يو إس إي توداي"، التي خصصت لها المانشيت الرئيسي.
مؤامرة أمريكية
وأثار ضلوع الأمريكيين الضعيف جدا في وثائق بنما، التي نشرها "الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين" ومقره العاصمة الأمريكية واشنطن، فرضيات تعتبر أن وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي ايه)، ومنظمات أمريكية أخرى تقف خلف الفضيحة سعيا لزعزعة استقرار بعض الدول، لا سيما روسيا.
وتضمنت وثائق بنما اتهاما للشركة المملوكة لرجل الأعمال رولدوغين، المقرب من بوتين، والتي زاولت نشاطها في منطقة الإعفاءات الضريبية وتورطت بالفساد المالي وحصلت على جوائز مالية تقدر قيمتها بنحو 2 مليار دولار من شركات روسية.
واتهم الكريملن، بشكل مباشر، المخابرات الأمريكية بالوقوف وراء وثائق بنما لاستهداف روسيا، قائلا إن "بوتين وروسيا وبلادنا واستقرارنا والانتخابات المقبلة كلها الهدف الرئيس، وخصوصا من أجل زعزعة الوضع"، مشيرا إلى أن الصحافيين الاستقصائيين الذين عملوا على الوثائق المسربة حول الملاذات الضريبية لشخصيات بارزة في العالم، هم مسؤولون أمريكيون سابقون وعملاء سابقون في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه).
من جانبها، قالت ووكر غيفارا إن "السلطات الروسية ترى السي آي إيه خلف كل من ينتقدها"، وهي لا تستبعد أن ترد في نهاية المطاف تسريبات مدوية حول أمريكيين ضمن وثائق بنما البالغ عددها 11,5 مليون وثيقة، مضيفة أنه "كم هائل من الوثائق، وربما هناك أمر مخفي لم نكتشفه بعد".
حرب التسريبات
ومن الملفت للنظر أن مؤسسة التسريبات الأخرى، والتي كانت الأكبر في العالم قبل "وثائق بنما"، مؤسسة "ويكيليكس"، اتهمت المنظمة الأمريكية "USAID" التابعة للحكومة الأمريكية، وشركة "سوروس" بتمويل تسريبات شركة "موساك فونسيكا"، في حين عمل "مشروع تقارير الجريمة المنظمة والفساد"، التابع لواشنطن، بالعمل على وثائق بنما التي استهدفت بوتين وروسيا، بحسب ويكيليكس.
وفي سلسلة تغريدات، أكدت "ويكيليكس" أن المؤسسات الثلاث عملت معا على استهداف بوتين وروسيا، مما "يقوض مصداقية" الوثائق، بحسب قولها.
ليسوا مضطرين لبنما
وغياب الولايات المتحدة عن وثائق بنما المسربة لا يضمن بالتالي سلوكا ضريبيا سليما، وقد يكون مرده بالمقام الأول إلى تمنع الأمريكيين عن التوجه إلى بلد بعيد ناطق بالإسبانية، بوجود إمكانات أكثر سهولة متاحة لهم.
إلى ذلك، أوضح نيكولاس شاكسون، صاحب كتاب مرجعي بهذا الصدد بعنوان "الجنات الضريبية: تحقيق في أضرار المالية النيوليبرالية"، لوكالة الأنباء الفرنسية أن "الأمريكيين لديهم جنات ضريبية كثيرة يمكنهم التوجه إليها".
وأول ما يتبادر إلى الذهن عند ذكر هذه الجنات الضريبية جزر كايمان وجزر فيرجن البريطانية، غير أن الأمريكيين الحريصين على إبقاء أنشطتهم المالية سرية، ليسوا ملزمين حتى بالخروج من بلادهم، فبعض الولايات مثل ديلاوير وويومينع تسمح لهم لقاء بضع مئات من الدولارات، بإنشاء شركات واجهة، من دون أن يضطروا إلى الإفصاح عن أسماء المستفيدين الحقيقيين منها.
وما يزيد من خطورة هذا الوضع أن المصارف الأمريكية، إن كانت ملزمة بـ"معرفة زبائنها"، ففي وسعها تخطي هذه القاعدة وفتح حساب باسم شركات وهمية، ما يضمن لمالكيها الحقيقيين تكتما تاما.
ودفع ذلك بالخزانة الأمريكية إلى سد هذه الثغرات التي غالبا ما يستغلها مهربو الأسلحة والمخدرات والتي حملت على إدراج الولايات المتحدة في المرتبة الثالثة بين الدول الأقل شفافية، متقدمة بفارق كبير عن بنما نفسها، بحسب ترتيب سنوي تضعه مجموعة "شبكة العدالة الضريبية"، كما قال متحدث باسم قسم الخزانة المكلف بمكافحة الجرائم المالية "إننا نضع اللمسات الأخيرة على تنظيم بهذا الشأن".
عقوبات بالغة
ورأى محللون أن هناك سببا آخر يمكن أن يفسر العدد الضئيل للأمريكيين الوارد ذكرهم في"وثائق بنما"، هو تعزيز آليات أمريكا لمكافحة التهرب الضريبي والفساد، وفرض عقوبات شديدة على المخالفين، بعد الفضيحة المدوية التي طالت المصارف السويسرية، والتي عرفت بـ"أوراق HSBC"، نسبة للبنك السويسري.
ونتيجة لذلك، قال شاكسون إن "بعض الجنات الضريبية باتت تصاب بالذعر لمجرد فكرة أن يكون لها زبائن أمريكيون، لأنها تعرف أن الولايات المتحدة لديها القدرة على إنزال تدابير مؤلمة بها".
واستهدفت الولايات المتحدة بصورة خاصة المصارف السويسرية التي باتت تتمنع عن قبول زبائن أمريكيين خشية مخالفة التزاماتها والتعرض لعقوبات فادحة.
واضطر مصرفا "يو بي إس" و"كريدي سويس" لتسديد غرامتين بلغتا 780 مليونا و2,6 مليار دولار على التوالي لتنظيمهما عمليات تهرب ضريبي لحساب عملاء أمريكيين.