الحراك الرسمي المشاهد اليوم لا يعين على التوافق بل يهدده بالنسف إذا استمرت أطراف النزاع في تعنتهم وأصروا على الاتجاه الذي يسلكونه.
البرلمان الذي تباطأ كثيرا وفشل في عقد جلسة صحيحة مكتملة النصاب بحضور رئاسته ما يزال معطل الموقف الجماعي وعاجزا على أن يحسم الجدل حول النوايا من الحكومة، وتصريحات بعض أعضائه فيها اتهام مباشر لرئاسة البرلمان بالمسؤولية على ما يقع في طبرق، فيما تكشف تصريحات وبيانات على الهامش أن كتلا محدودة العدد من الأعضاء نجحت في فرض إرادتها على الأغلبية الراغبة في اعتماد الحكومة والمضي في مشوار التوافق السياسي وفق مقررات الصخيرات.
على الضفة الأخرى، نشهد تطورات سريعة في المقدمة منها إلتئام "المجلس الأعلى للدولة" باعتباره أحد الأجسام الثلاثة السيادية التي انبثقت عن الاتفاق السياسي وتضم عددا محددا من إجمالي المنتخبين لعضوية المؤتمر الوطني وهم الفاعلون زمن التجاذب السياسي والتفاوض لأجل التوافق.
المجلس الأعلى للدولة الذي نجح في أن يتجاوز النصاب بحضور جيد اختار رئاسته والنائبين، وفرض نفسه كجسم سيادي و"سياسي" جديد في هذه المرحلة الصعبة، ولهذا دلالة إيجابية وأخرى سلبية، فالإيجابية أنه يتقدم بالتوافق خطوة باتجاه إزاحة الأجسام القديمة بأخرى تم التوافق حولها، أما السلبية فهي أن يعزز من التشظي والانقسام ويوسع دائرته وذلك في حال استمرار الأجسام القديمة من مؤتمر وحكومة ولو بسلطات أقل وتأثير أضعف.
الجدل الكبير ثار بعد إقدام المجلس الأعلى للدولة على التعديل على الإعلان الدستوري، وهي وظيفة تشريعية يقول البرلمان وأنصاره إنها بامتياز مهمة أصيلة للبرلمان وليس للمجلس الأعلى، فيما يتحجج المجلس الأعلى بأن الاتفاق السياسي لم يحدد جهة الاختصاص وبالتالي الباب مفتوح للطرفين. وهالني ما سمعته من تفسير لبعض النشطاء الحاضرين بقوة في المشهد الليبي من أنه يجوز للمجلس الأعلى والبرلمان أن يقوما بالتعديل الذي يريانيه ضروري؟!
اختار المجلس الأعلى للدولة السيد عبدالرحمن السويحلي رئيسا له، والسويحلي كان مصنفا من ضمن "صقور" المؤتمر الوطني والبرلمانيين المقطاعين حين كان الصراع على أشده بين فجر
ليبيا والكرامة، وتحول إلى مناصر بقوة للتوافق وداعم للصخيرات ومخرجاته ليصبح أحد أبرز الأعضاء المعارضين لرئيس المؤتمر ومن يسانده من أعضاء في الموقف من الاتفاق السياسي. من جهة أخرى، فإن السويحلي من مصراته ويقود جسما سياديا موقعه العاصمة التي تشهد توترا ملحوظا بين كتائب مصراته وأخرى من طرابلس، وقد يكون لانتخاب السويحلي أثره السالب، أو قد ينجح في منع تفجر الوضع واحتواء الاحتقان.
من المهم في سياق استعراض التطورات في المشهد السياسي الليبي التعريج على "لاءات" حفتر الثلاثة التي نقلتها صحيفة الأهرام المصرية في مقابلة أجرتها معه مؤخرا، وهي في حال كان مقصودا أن يُعلن عليها بهذا الوضوح والتفصيل، مهمة، فرفضه للمجلس العسكري كبديل عن البرلمان وعن الأجهزة السياسية الحاكمة يقطع الشك باليقين من استبعاد فرضية أن يرث حفتر السلطة في طبرق من خلال تنازل من البرلمان، ويثبِّت الاتفاق السياسي ويؤكد نتائجه. أما الثانية فهي رفضه التقسيم، وهو موقف ينبغي أن يحسب له في ظل ضغوط تمارسها أطراف من داخل البرلمان وخارجه تجاهر بالدعوة للتقسيم والانفصال وتبذل قصار الجهد لجعله حقيقة من خلال عرقلة الاتفاق ومنع البرلمان من المضي فيه. أما آخر اللاءات فهي رفضه التدخل في السياسة، وهو ما نجزم بعدم صدقيته، فمن الواضح أن مواقف حفتر كان لها أثرها الجلي في العملية السياسية، بل إن أنصاره في البرلمان ممن يطلق عليهم كتلة "السيادة" يسهمون في عرقلة الاتفاق السياسي بتحفظهم على تعيين وزير للدفاع في حكومة الوفاق لا ينال رضى الجيش، والمقصود خليفة حفتر.
الخلاصة هي أن الحراك ما يزال غير توافقي وأن الاستعجال بتطبيق الاتفاق وإنشاء الأجسام التي حددها في غياب توافق حقيقي إنما هو إضعاف للتوافق وليس تعزيزا له، ونقص من السيادة وليس تأكيدا لها، وزيادة في الشرخ السياسي وليس العكس.