خلّف تراجع
الدولة العثمانية بدايات القرن العشرين واحتلال القوى الاستعمارية الولايات العربية -التي كانت تدار بشكل موحد من الدولة العثمانية- واقعا جديدا ظهرت فيه خلافات ونزاعات على الحدود والأملاك التابعة لكل دولة.
وبرزت الهويات المحلية والتقسيمات السياسية التي لم تكن في ظل الدولة العثمانية، بل واشتعلت حروب بين الأشقاء العرب، راح ضحيتها الأرواح لتثبيت الخطوط النهائية، لشكل الدول الناشئة بعد رسم الاستعمار البريطاني والفرنسي وغيره خطوط حدودها الأولية، لتقسيم تركة العثمانيين بعد سقوط الخلافة الجامعة لكل العرب والمسلمين.
ولا تكاد تخلو دولة عربية من نزاعات على الحدود بينها وبين جيرانها العرب؛ بسبب وجود ثروات طبيعية أو مواقع استراتيجية بين هذه الدولة في تلك النقاط.
ولعل أكثر الدولة التي دخلت في نزاعات حدودية مع جيرانها كانت السعودية، التي حسمت بعض النزاعات، فيما بقيت بعض تلك النزاعات قائمة دون حل حتى يومنا هذا.
ووقع نزاع حدودي بين السعودية وجارها الشمالي الأردن على مدينتي معان والعقبة، وكرر الجانب السعودي المطالبة بتلك المدينتين على مدى عدة أعوام في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي حتى تم التوصل إلى اتفاق ببقائهما ضمن السيطرة الأردنية، واستبدالهما بالقريات التي أصر النظام السعودي على دخولها ضمن حكمه.
أما النزاع الحدودي الذي وقع بين السعودية وجارها الشمال شرقي الكويت، فكان حول منطقة قرب الأحساء عند رسم الحدود الجنوبية للكويت في العشرينات، وعادت بعد فترة من الهدوء للخروج على السطح بين عامي 1957 و1958، بعد رفض الكويت تشكيل مجلس مشترك لإدارة المنطقة، لكن الخلاف حل عام 1965 باتفاقية نصت على تقسيمها إلى جزأين، لكن الاتفاقية لم تضع تسوية لجزيرتي أم المرادم وكارو اللتين تطالب الكويت بضمهما إلى سيادتها، وما زالت قضية الجزيرتين عالقة حتى الآن.
وعلى الحدود مع العراق، لم يبلغ النزاع الحدودي مرحلة الصدام، بل كان أفضل حالا من الحدود الأخرى، لكن الخلاف كان حول المنطقة العازلة التي أنشئت عام 1921 باتفاقية المحمرة، ومساحتها 2500 ميل مربع، منحت حرية التنقل للقبائل، بالإضافة إلى تدفق النفط للسعودية والعراق، وتم إنهاء النزاع عام 1975، بتقسيم المنطقة إلى قسمين متساويين بخط مستقيم عرضا.
وشهدت الحدود الشرقية للسعودية نزاعا حدوديا مع البحرين، لكنه هذه المرة كان بحريا؛ لعدم وجود رابط بري بين البلدي، وكان النزاع يدور حول منطقة مياه ضحلة تسمى "فيشت أبو سعفة"، وفيها جزيرتان، لبينة الكبرى والصغرى.
وفشلت كل محاولات حل النزاع بعد مطالبة السعودية بلبينة الكبرى وأبو سعفة وضم الصغرى للبحرين، لكن النزاع الذي بدأ عام 1941 وجد طريقه للحل عام 1958، حين حصلت البحرين على نصف العائد من البترول المستخرج من أبوسعفة، وتنازلت عن مطلبها الخاص بالسيادة على فيشت أبو سعفة، وحصلت السعودية على جزيرة لبينة الكبرى والبحرين على جزيرة لبينة الصغرى، دون أن يكون لأي منهما مياه إقليمية.
وعلى الحدود السعودية مع دولة الإمارات، نشب نزاع حدودي بعد محاولة شركات أمريكية التنقيب عن النفط في منطقة واحات البريمي، وأسفرت العديد من الجولات والمفاوضات عن التوصل لاتفاق عام 1974 بين السعودية وإمارة أبو ظبي، تحصل الأخيرة على واحات البريمي الست مقابل تنازلها عن مثلث من أرض غرب أبو ظبي وجنوب شرق قطر المعروفة باسم سبغة مطي لصالح السعودية.
وشهدت الحدود الصحراوية بين السعودية وعمان نزاعا في منطقة الربع الخالي. وعقب العديد من جولات المباحثات، توصل الجانبان إلى اتفاقية عام 1990 لم تكشف بنودها، إلا أن تسريبات في حينه قالت إن الملاحق تضمنت تحديد مناطق الرعي وتنظيم التنقل فيها على أساس المساواة والمصلحة المتبادلة.
واتخذ النزاع الحدودي بين السعودية وقطر شكلا داميا؛ إذ وقعت أحداث على منفذ الخفوس الحدودي السعودي مع قطر، والذي كان سابقا منفذا إماراتيا مباشرا على قطر، وحصل فيه صدام مسلح قتل على إثره جندي سعودي وجنديان قطريان.
وعلى حدود اليمن، ظلت عسير وجيزان ونجران مدار نزاع يمني سعودي منذ نشأة الدولة السعودية، وظلت الحكومات اليمنية تطالب بها منذ الثلاثينات، لكن الرئيس اليمني المخلوع علي عبدالله صالح أنهى النزاع التاريخي عام 2000، وأعلن تبعية هذه المناطق للسعودية، وعدم أحقية اليمن بالمطالبة فيها وترسيم الحدود بشكل نهائي.
وفي غرب السعودية، انتهى النزاع الحدودي مع مصر في جزيرتي تيران وصنافير الاستراتيجيتين بالبحر الأحمر إلى عودتها إلى السعودية، بعد إقرار نظام الانقلاب في مصر بأحقية السعودية في السيطرة عليهما، وأن الرياض إبان حكم الملك عبدالعزيز آل سعود طلبت من القاهرة المحافظة عليهما إلى حين.
نزاع الحدود المصرية السودانية أيضا من النزاعات التاريخية بين
الدول العربية منذ انفصال السودان عن مصر، وبقيت منطقتا حلايب وشلاتين منطقة تنازع يدعي كل بلد أحقيته بهما.
ولم تكن دول المغرب العربي بعيدة عن
النزاعات الحدودية، خاصة بعد انسحاب الدول الاستعمارية التي لم تول عمليات ترسيم الحدود بين الدول الدقة الكافية، ما فجر صراعات لاحقا بعد اكتشاف ثروات وموارد طبيعية في الحدود التي لم تحدد بشكل دقيق.
ونشب نزاع حدودي بين تونس وليبيا على منطقة الجرف القاري، وصلت حدته إلى قيام تونس عام 1977 برفع دعوى على ليبيا أمام محكمة العدل الدولية، مطالبة بحقها في منطقة الجرف القاري بالبحر الأبيض المتوسط، إلا أن المحكمة الدولية رفضت الدعوى، واتفق البلدان لاحقا على التفاهم بينهما بشأن الاستفادة المتبادلة من المنطقة.
وشهدت الحدود التونسية نزاعا آخر، لكن مع الجزائر عند النقطة 233، والتي انسحبت منها القوى الاستعمارية الفرنسية، وكانت قبل الاستعمار تتبع تونس، لكن بعد تلك الفترة ضمت للجزائر، وحين طالبت تونس بالعودة لخرائط من قبل احتلال الفرنسيين للمنطقة، رفضت الجزائر، واستمر النزاع نحو 8 سنوات قبل إقرار تونس بتبعية النقطة للجزائر بشرط الاستغلال المتبادل لثروات تلك المنطقة.
وثار نزاع حدودي بين الجزائر وليبيا عند قرية إمناس، حين دخلت دوريات جزائرية إلى المنطقة في نهاية ستينيات القرن الماضي، ولم يصل النزاع بين البلدين لحالة اشتباك، بل استمر تأجيل التباحث حول الخلاف؛ تجنبا لأي صدام يمكن أن يقع.
ولم تكن الحدود الجزائرية المغربية بعيدة عن جو النزاعات الحدودية، فقد ثار بين البلدين واحد من أعقد النزاعات الحدودية في الوطن العربي في منطقتي "الحاسي البيض" و"كولومب بشار" المغربيتين، اللتين أدخلهما الاستعمار الفرنسي ضمن خارطة مناطقه الاستعمارية في الجزائر.
وعقب الانسحاب الفرنسي، طالب المغرب بعودة المنطقتين الغنيتين بالثروات لسيادته، لظهورها كأراض مغربية في خارطة المغرب ما قبل الاستعمار الفرنسي، لكن الجزائر رفضت وتمسكت بالخرائط التي رسمها الفرنسيون.