لا شك أن الأمة الإسلامية كلها تعرضت لقصف إعلامي مروع استهدف مراكز التفكير عبر عقود طويلة. يمكنك تصور حجم الضرر الذي أصاب مراكز التفكير عند البعض إن راقبت سلوك المواطن المتعسكر في
مصر، الذي لا يزال يتحدث عن (الجيش الذي أنقذ مصر من المؤامرة، الذي يسهر من أجل حماية الشعب)، أو المواطن السوري الذي لا يزال محتفظا بتأييده للنظام الإجرامي، على الرغم من كل الدماء المسفوكة.
تم تدمير مقاييس الحلال والحرام والخطأ والصواب، وتمت صناعة دين جديد، يقوم على تقديس أعلام دويلات سايكس- بيكو وجيوشها، التي اتضح أنها ليست سوى مليشيات أمن مركزي للعدو الصهيوني، مجرد صورة متطورة زمنيا عن مخابرات سلطة محمود عباس، التي تقاوم الانتفاضة بشراسة تفوق شراسة جنود الاحتلال الصهيوني.
وبينما يصطف الجميع في معسكرين لا ثالث لهما، معسكر مع مؤسسات دولة العسكر وجيوش الأنظمة العميلة، ومعسكر آخر مع الثورة، نجد في الحالة المصرية، أصواتا منبعثة من أطراف معسكر الثورة، مطلقة دعوات ظاهرها التعقل الثوري وباطنها العذاب، تدعو للحفاظ على المؤسسات!!
أي ببساطة، حافظوا على المؤسسات التي تقتلكم.
أي إنه يجب على رافضي الانقلاب في مصر أن يقدسوا المخابرات التي تآمرت مع الموساد لتنسيق الانقلاب على الرئيس مرسي، والجيش الذي يقصف منازل المصريين في سيناء بالمدفعية والطيران، والجيش الذي وقفت دباباته في الشوارع تحرس الانقلاب العسكري، وتصوب فوهات مدافعها نحو الشعب، محذرة إياه من الدفاع عن اختياره.
البعض (وأقول البعض) في معسكر الثورة، قد يجد ملاذا نفسيا في تلك الدعوات المشبوهة، وينبع ذلك في الأساس في رغبة هذا البعض في الانخداع بمنطق تلك الأصوات (المؤسساتية)، لأنه ببساطة لا يريد أن يرى.
يدرك هو أن
الجيش المصري لا يختلف عن جيش بشار، بل ربما يسبقه على سلم الإجرام، وأن دويلات سايكس- بيكو في سبيلها للسقوط، وأن شكل المنطقة لن يعود كما كان، وأن العرض المسرحي الذي استغرق 100 عام قد قارب على الانتهاء، فإما تقسيم وإما خلافة، ولكنه لا يريد أن يخوض كل هذا، كما لو كانت رغبته وحدها تكفي.
يدرك هو أن هناك قوى دولية تعمل على مدار الساعة لحماية تلك المؤسسات من السقوط، ولكن نفسه تفضل هذا الحل الذي يوفر عليه مشقة الطريق الذي يراه طويلا.
يرجع هذا في جانب منه للقصف الإعلامي المركز الذي تعرضنا له جميعا خلال عقود، هناك من نجح في الإفلات من آثاره، وهناك من لا يزال يعاني من تشوهات فكرية تحتاج وقتا للعلاج.
الإعلام العسكري نجح خلال العقود الماضية في الوصول بعقول البعض إلى صناعة مزاج وهمي يتوافق مع أهداف المؤسسات التي يديرها رئيس عينته السي آي إيه!
وفي الحقيقة، فإن فهم ثوابت الثورة لا يتطلب سوى بعض القوة النفسية التي تتيح لصاحبها التكيف مع الواقع الجديد، الذي ستقتلع فيه موجات التغيير أنظمة ودويلات سايكس- بيكو.
الحجج التي يسوقها البعض في محاولة لإقناع معسكر الثورة بالتخلي عن إصراره على عودة الرئيس مرسي، مثلا قد يعطيك فكرة عن التشوش الذي أصاب حتى الثوابت البديهية.
المعادلة في هذا الصدد مثلا شديدة الوضوح..
انقلاب تم بعد انتخابات شارك فيها الشعب.. إذا يرحل الانقلاب ويعود الرئيس المنتخب..
واحد زائد واحد لا يساوي ثلاثة.. لم نسمع قط في التاريخ البشري عمن يطالب برحيل انقلاب، وتعيين بديل للرئيس المنتخب الذي تم الانقلاب عليه.
مرحلة متطورة من تلك التشوهات النفسية والفكرية، جعلت بعض المواطنين الانقلابيين يسرفون في محاولة إثبات عدم أحقية مصر بجزيرتي تيران وصنافير.
الأمر واضح، نحن على أعتاب الخروج من الكهف المظلم الذي قبعنا داخله 200 عام، خارج الكهف حياة مختلفة عن تلك التي تربينا عليها.
رفضك أو عدم رفضك لن يطفئ الشمس خارج الكهف.
جدران الكهف نفسها تتشقق، فإما أن تظل بالكهف وتسقط الصخور على رأسك وتسحقها، وإما أن تسرع بالخروج.