رغم أن
الهدنة في
سوريا ما زالت قائمة نظريا، إلا أن الخروقات المتكررة لها تجعلها في مهب الريح عمليا، فاستئناف القتال غرب
حلب، في "سهل الغاب" وشمال "جبال العلويين"، لا يدع مجالا للشك بأن وقف إطلاق النار الهش الذي أُقر في شباط/ فبراير قد انتهى إلى الأبد، كما يقول تقرير لمعهد واشنطن.
وفي الوقت الذي يناشد فيه المبعوث الدولي الخاص إلى سوريا ستيفان دي مستورا القوى الكبرى، خصوصا روسيا وأمريكا، لإنقاذ الهدنة الهشة؛ لمحاولة الوصول إلى حل سياسي للأزمة السورية، يستعد كل فريق في الحرب السورية إلى استئناف عام للقتال في منطقة حلب. فبالإضافة إلى المدينة ذات الأهمية الاستراتيجية بحد ذاتها، أصبحت الأراضي التي يسيطر عليها
تنظيم الدولة بين حلب ونهر الفرات نقطة محورية بشكل متزايد، الأمر الذي يحوّل الانتباه بعيدا عن معقل التنظيم شرقا.
ويتناول التقرير الذي أعده فابريس بالونش، مدير الأبحاث في "جامعة ليون 2"، ونشره معهد واشنطن، الوضع العسكري والميداني لمعركة حلب بالتفصيل.
ففي 27 شباط/ فبراير، أوقفت عملية وقف إطلاق النار مؤقتا حملة الجيش السوري المدعومة من روسيا وإيران لتطويق الأجزاء التي يسيطر عليها الثوار في مدينة حلب. وفي ذلك الحين، كان الجيش قد قطع بالفعل الطريق المؤدي إلى بلدة أعزاز الحدودية بالتعاون مع «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردي. وأدى ذلك إلى رد فعل قوي من
تركيا، التي أطلقت النار على المليشيا الكردية؛ لمنعها من السيطرة على مدينة أعزاز ومعبر "باب السلام" القريب.
وكان الجيش السوري قد تقدم في مواجهة الجماعة جبهة النصرة جنوبي حلب، وفي مواجهة قوات تنظيم الدولة شرقا، ما أدى إلى اتساع محيط مطار كويرس العسكري.
وفي الوقت نفسه، على الجانب الشمالي الشرقي من حيب تنظيم الدولة، استولى حزب الاتحاد الديمقراطي على "سد تشرين" وعبر نهر الفرات في كانون الأول/ ديسمبر، لكنه لم يغتنم الفرصة لفرض المزيد من الضغط والاستيلاء على مدينة منبج، وذلك بسبب معارضة الولايات المتحدة للهجوم الذي من شأنه أن يثير غضب تركيا التي حذرت الأكراد مرارا من عدم التقدم غربي نهر الفرات.
ويشير التقرير إلى أن استراتيجية نظام الأسد في حلب في هذه الأيام تركز على إقامة حزام مزدوج حول المدينة لعزل الأحياء الشرقية التي يسيطر عليها الثوار العرب والأكراد، والتي ترتبط بمعقل المعارضة في محافظة إدلب، وبخط الإمداد الغربي من تركيا عبر طريق "الكاستيلو". ومن أجل تشكيل الجزء الأعمق من هذا الحزام، تقدمت قوات الجيش المنتشرة في شمال المدينة نحو مسافة تقل عن كيلومتر واحد من المنطقة التي يسيطر عليها الأكراد في حي "الشيخ مقصود"، من خلال استيلائها على بلدة ملاح في 14 نيسان/ إبريل، وتستعد للتقدم أكثر فأكثر جنوبا في وقت قريب.
أما بالنسبة إلى الحزام الخارجي، فتشير التحركات الأخيرة للقوات إلى أنه يتم إعداد العدة لشن هجوم أوسع غرب المدينة، بين الزهراء و"خان العسل"، الذي ينبغي أن يستكمل تطويق جميع قوات الثوار في منطقة حلب. وفي النهاية، وفي ظل غياب اتفاق سياسي، من المرجح أن يحاول الجيش عزل محافظة إدلب بأكملها بطريقة مماثلة. وفق بالونش.
ويرى بالوش أن بشار الأسد واصل بكل تحد اعتماد تكتيكات بائسة، وسط مفاوضات من المفترض أن تؤدي إلى وقف إطلاق النار وإحلال السلام، بدءا من إلقاء براميل الديناميت شرق حلب وصولا إلى قصف الأسواق في "معرة النعمان" و"كفرنبل".
ما هي الخطوة التالية بالنسبة إلى ممر منبج - أعزاز؟
يشير بالوش إلى أن الحملة التي تقودها الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة، قد اعتمدت بشكل شبه كامل على الأكراد، ولكن هذا النهج لا يكفي عسكريا لهزيمة التنظيم. كما يرى بالوش الذي يضيف أن الأمر يطرح إشكالية سياسية؛ لأن «حزب الاتحاد الديمقراطي» يريد أن يستولي على منبج قبل أن يدعم أي هجوم جنوبا ضد الرقة. وبالتالي، تشكل منبج خطوة أساسية نحو ربط الجيبين الكرديين على الحدود مع تركيا، وقد سبق للأكراد أن أثبتوا أنهم سيلجؤون إلى رعاة آخرين إذا لم تدعمهم واشنطن في تحقيق هذا الهدف.
وفي كانون الثاني/ يناير وشباط/ فبراير، ساعد الدعم الجوي الروسي «حزب الاتحاد الديمقراطي» على الاستيلاء على عدد من القرى التي يسيطر عليها الثوار العرب، ويمكن تكرار هذا التنسيق الوثيق على نطاق أوسع بين منبج وجيب عفرين غربا، ضد الثوار وتنظيم الدولة على حد سواء.
في المقابل، فقد أثبتت تركيا، حسب التقرير، أنها مصممة على منع هذا السيناريو. فقد قام الجيش التركي قبل شهرين بنشر المدفعية لقصف مواقع «حزب الاتحاد الديمقراطي» من أجل حماية أعزاز. ووفق بالوش فقد سمحت أنقرة أيضا لآلاف من المقاتلين، بمن فيهم عناصر من «جبهة النصرة»، بعبور الأراضي التركية من محافظة إدلب إلى أعزاز، ومنع ممر الثوار من الانهيار تماما.
وبعد ذلك تم استخدام هؤلاء المقاتلين ضد تنظيم الدولة شرق أعزاز، وهي المنهجية التي تتبعها تركيا للسيطرة على ساحة المعركة قبل أن يبدأ «حزب الاتحاد الديمقراطي» والجيش السوري بشن الهجمات الخاصة بهما بشكل جدي، وذلك بهدف الإظهار لواشنطن بأن الثوار المدعومين من تركيا يستطيعون هزيمة تنظيم الدولة من دون المزيد من التقدم من «حزب الاتحاد الديمقراطي».
إلا أن الثوار لم يحققوا سوى مكاسب إقليمية محدودة، وسرعان ما استعاد تنظيم الدولة نصف هذه الأراضي، ما دفع بـ30 ألف لاجئ إضافي نحو الحدود التركية.
ويؤكد تقرير معهد واشنطن أن التباعد بين تركيا وتنظيم الدولة يبدو نهائيا الآن، ففي الماضي بدأت تركيا تغض الطرف عندما كان التنظيم يتلقى الدعم عبر الأراضي التركية؛ نظرا إلى جهوده ضد نظام الأسد، لكن الهجمات الإرهابية الأخيرة التي قام بها التنظيم في بعض المدن التركية قد وضعت حدا لأي إمكانية تسامح متبقية. كما من المرجح أن تدرك تركيا أنه من الأفضل دعم جهود الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة إذا كان يريد التأثير على موقف الرئيس أوباما بشأن القضية الكردية في سوريا.
ويكشف بالوش -وفقا لمصادر خاصة مطلعة على الشؤون التركية- أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما طلب من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عدم معارضة الجهود الأمريكية-الكردية للسيطرة على منبج في خلال اجتماعهما الذي عقد في 31 آذار/ مارس في واشنطن. ويبدو أن الزعيم التركي رفض ذلك الطلب، وطالب بأن تنفصل العشائر العربية التي تقاتل إلى جانب «حزب الاتحاد الديمقراطي» عن الحزب وتفرض سيطرتها على منبج بنفسها. بيد أن هذه العشائر العربية لا تتمتع بالقدرة العسكرية للقيام بذلك.
معركة الرقة؟
يبدو أن كل الأمور تسير في صالح تنظيم الدولة، فباستثناء الرئيس أوباما، فإن أيا من اللاعبين الرئيسيين في الصراع ليس في عجلة من أمره للتقدم في الرقة نفسها، أو لطرد تنظيم «داعش» من سوريا. فبالنسبة إلى تركيا، لا يزال التنظيم هو عدو أعدائه، لذلك يستمر في تجنب مشاركة تركية واسعة النطاق في الحملة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية».
وبالنسبة إلى الأسد، يشكل التنظيم غطاء مثاليا، ويعطي الحكومات الغربية سببا آخر لعدم إجباره على الخروج من السلطة. كما أن التحالف المؤيد للأسد يرى أن الولايات المتحدة غير قادرة على تدمير «داعش» في سوريا، أو غير راغبة في ذلك من دون مساعدته.
وأخيرا، بالنسبة للأكراد، تشكل محاربة تنظيم الدولة الوسيلة الأفضل لتوحيد جيوبهم (مناطقهم) في الشمال، وبناء دولة خاصة بهم.