كتاب عربي 21

ثورات الربيع العربي بين الإرهاب والاستبداد

1300x600
في الرواية الاستشراقية الكولينيالية والإمبريالية الثقافوية يختزل العالم العربي بـ"الإرهاب والاستبداد"، فالإسلام كإطار ثقافي مكون لحضارة المنطقة كيان جوهراني دكتاتوري عنيف يستعصي على التحول والتطور، ومعاد بطبيعته للحداثة والديمقراطية والتعددية والحرية، لكن ثورات الربيع العربي وضعت هذه المقاربة النظرية العنصرية في مهب الريح، وأدخلت سدنتها من الإمبرياليين الدوليين ومخبريهم من التابعين المحليين في نوبة من العصاب الهستيري العنيد، فالثورات العربية برهنت على ديناميكة الشعوب العربية وتطلعاتها نحو الحرية والاستقلال، وشوقها للتخلص من التبعية والاستبداد، وطموحاتها بالكرامة والديمقراطية والعدالة.

رواية الدكتاتورين كمخبرين حول ثورات الربيع العربي جاءت مطابقة لرغبات أسيادهم من الإمبرياليين، والتي تلخصت بلغة تقارير المخبرين أن الربيع العربي شرّع الأبواب لصعود الإسلاميين الفاشيين، المطبوعين بالهمجية والبربرية والعنف، وجاء بكائنات تاريخية متوحشة من جهاديي الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة المعادية للحضارة والإنسانية، لكن رواية المغلوبين البسطاء اللذين فجروا ميادين الاستبداد والفساد ــ وهم الآن في المنافي والسجون ــ؛ تحاجج أن "الثورة المضادة" لموجة الربيع العربي بقيادة التحالف الإمبريالي العالمي المظفر مع الدكتاتورية المحلية البائسة، هي التي أجهضت الربيع وأحالته إلى خريف، عبر تكتيكات العسكرة الانقلابات، بعد أن انزوت الحركات الجهادية الراديكالية ودخلت في تكيّفات مع أطروحات الديمقراطية والتعددية، وكانت توشك على الأفول والزوال، لكن "فرانكشتاين" الدكتاتوري أصر على صناعة وحش الجهادية. 

في كتابه حول الربيع العربي عمل حميد دباشي على تحدي كل المفاهيم التي تُبنى عليها تحليلات المخبرين وأسيادهم للربيع العربي، تحديا يصل إلى حد تفكيك كل عناصر هذه الظاهرة وتركيبها من جديد، ذلك أن رياح الديمقراطية تأخر هبوبها على هذه البقعة من العالم بسبب الإمبريالية والدكتاتورية، وأن الربيع العربي حينما جاء فإنه لا يطيح بالأنظمة التي استقرت على العروش عقودا فحسب، بل يطلق الرصاصة الأخيرة على الإيدلوجيات التي نشأت في مرحلة ما بعد الاستعمار في العالم العربي، ولا يستثني من هذا تيار الإسلام السياسي ولا حتى تيار القومية العربية والماركسية في نسختها العربية. هذا فضلا عن التغيرات التي أحدثها، أو بالأحرى التي كشف عنها، في المسائل العرقية والنسوية بالعالم العربي.

السردية الإمبريالية الأمريكية الجديدة منذ تدخلاتها في المنطقة إبان الحرب الباردة، كانت امتدادا لشقيقتها الكولينيالية الاستعمارية الأوروبية، وتصوراتها الجوهرانية المناهضة للتحرر والتحول، من خلال الالتزام بتحقيق "الاستقرار" وليس "الديموقراطية"، وهي استراتيجية كان قد حددها الأكاديمي الأميركي والمستشار الحكومي صموئيل ب. هنتنغتون، الذي حاجج بأهمية الاستقرار السياسي في دول العالم الثالث للمصالح الامبريالية، كون الديموقراطية غير مستقرة بطبيعتها وتتطلب الديكتاتورية كضمانة للاستقرار، وعلى الرغم من اضطراب الرؤية الأمريكية عقب ثورات الربيع العربي، إلا أنها سرعان ما عادت لذات المنظور بدعم الدكتاتورية تحت ذريعة ديمومة الاستقرار.

لا يرغب السادة الإمبرياليون وأتباعهم من الدكتاتوريين، بسماع رواية المغلوبين من ضحايا إرهابهم الممنهج، وهي رواية تفضح التحالف بين الاستشراق والإمبريالية والدكتاتورية المنتجة للإرهاب، وكان فرانسوا بورغا قد عمل على تعريتها قبل الربيع العربي في كتبه حول الإسلام السياسي: "في زمن القاعدة"، و"صوت الجنوب"وغيرهما، بأن سبب الفشل والإخفاق في "الحرب على الإرهاب" ينبع من عقلية التجريم التي تنتهجها وسائط الإعلام ومخازن الأفكار الغربية في التعامل مع كل تعبير احتجاجي أو معارض آت من "الجنوب" إذا كان إسلاميا، نتيجة العجز الأوروبي عن القيام بعملية التواصل بين الشمال والجنوب بسبب رفض الاعتراف بشرعية أي معارضة إسلامية معتدلة من جهة، وعدم قناعتها بقدرتها على التحديث من جهة أخرى، وقد ترتب على ذلك فقدان القدرة على إقامة اتصال فعال مع مجتمعات الجنوب المدنية الحقيقية، لصالح شراكات تسمى "علمانية" منتقاة لمجرد براعتها في أن تقول للغرب ما يريد سماعه بألفاظ مألوفة، بغض النظر عن شرعيتها.

فالدبلوماسية الأوروبية كما يرى بورغا غير قادرة على التفاوض مع محاورين عدا الموجودين بقرب الأنظمة الاستبدادية أو على هامش المجتمعات الذين يعكسون لأوروبا صورة مريحة لشموليتها، افقدها الرغبة بالاعتراف بجيل سياسي بأكمله، بحيث طوعت مبادئها حسب ضخامة الوارد النفطي، وضحت بالسياسي بعيد الأجل على مذبح المالي والانتخابي قصير الأجل.

في كتابه الأخير الماتع "الإسلام في الليبرالية"، يفنّد الصديق العزيز جوزيف مسعد هدف حملات التبشير الليبرالية وسعيها الدؤوب إلى نشر قيمها بين المسلمين، وبالتالي إنقاذهم مما يعانون منه من نظام استبدادي وتعصب وكراهية للنساء، ويستند إلى خلاصة مكثفة لعالم الإنثروبولوجيا الكبير طلال أسد، بأن "المهمة الليبرالية تقتضي إعادة تشكيل الإسلام ليكون على شاكلة المسيحية البروتستانتية الليبرالية، وفي حال رفض المسلمون أهداف هذه الحملة، والتحوّل طواعية إلى الليبرالية، عندها يجب استخدام القوة العسكرية"، لأن رفضهم يعني التصدي للحداثة والقيم الليبرالية، والحرية، والمساواة، والفردانية، والمواطنة، وحقوق المرأة، والحريات الجنسية، وحرية المعتقد، والعلمانية، والعقلانية. كما ان مقاومتهم تشكل تهديداً لقيمة جوهرية من قيم الليبرالية، وهي عالميتها وضرورة تعميمها كالعولمة، ويؤكد مسعد على أن الغرب يسيء للإسلام، عبر اسقاط صفات الإرهاب والقمع والديكتاتورية والظلم والاضطهاد عليه، ومن ثم القول إن هذا الإسلام يشكل النقيض التام لليبرالية في الدول الغربية المسيحية التي هي مثال حيّ للحضارة والديموقراطية والحرية والدفاع عن حقوق المرأة والحريات الجنسية، ويشرح مسعد كيف أن القلق حول ما ساد أوروبا والغرب من استبداد وتعصب وكراهية للنساء وعنصرية وقمع للحريات تمّ إلصاقه بالإسلام، ليتسنى للدول الغربية أن تظهر بمظهر الديموقراطية المتسامحة، وأن تضع تعريفاً لليبرالية على أنها المنقذ الوحيد، كونها تجسّد كل ما هو مناف للإسلام.

يشدد حميد دباشي على أن ثورات الربيع العربي تشكل نهاية حقبة ما بعد الاستعمار، ويرى أن هذه الظاهرة الفريدة تعيد صياغة مفهوم الثورة مرة أخرى. فما نحن بصدده ليس استنساخا لنمط الثورة الذي مر بفرنسا وروسيا والصين وكوبا أو حتى الثورة الإيرانية عام 1979. فالأمر ليس تغييرا مفاجئا وجذريا للقوة السياسية مصحوبا بإعادة هيكلة المجتمع اقتصاديا واجتماعيا، بل يحمل تغييرا أعمق من هذا بكثير يطال الأنماط الثقافية السائدة، ولن تبقى الثورات العربية حجرا على حجر في الثقافة السياسية والاقتصادية في هذه المجتمعات؛ فالخرائط الجغرافية والفكرية المألوفة خلال العقود الماضية مرشحة وبشدة لإعادة الرسم مرة أخرى، بدءا من مصطلح الشرق والغرب نفسه، الذي يراه الكاتب تقسيما استعماريا بامتياز، وانتهاء بالأيدلوجيات الفكرية السائدة، وخاصة تلك التي يسميها الأيدلوجيات الحتمية، ويستشهد دباشي بما اصطلح على تسميته تيار الإسلام السياسي الذي رآه قد بلغ أوج تطوره مع نموذج القاعدة التي حاولت استخدام القوة بشكل عالمي من أجل إحداث التغيير، ليأتي الربيع العربي كي يبرهن على خطأ هذا المسار، ويضرب هذه الأيدلوجية في مقتل، فالحركات التي تبنت أفكارا ترى أنها وصفات حتمية لحل مشاكل المجتمعات العربية في مرحلة ما بعد الاستعمار لم يأت التغيير وفقا لأجندتها، وإن كانت قد ساهمت بدور فيه. هذه الرواية لدباشي لم تطيقها الإمبيريالية والدكتاتورية فجائت بالثورة المضادة، لإعادة إنتاج دورة من العنف، لإعادة المنطقة وإخضاعها للعبة التمثيل الاستشراقي التي فضحها معلمنا الراحل إدوارد سعيد.

في كتاب "وجوه سمراء وأقنعة بيضاء"، لحميد دباشي، وهو عنوان مستعار من كتاب آخر لفرانتز فانون، يقدم دباشي استناد لدراسات التابع توصيفا مهما لمفهوم "المُخبر المحلي" وهو تعبير يحيل الى ابن الجنوب المستعمَر، الذي يجد مكانه في المركز الغربي عبر التطوع لتأدية دور "الدليل"، الذي ينقل الى الغربيين الخبرة والمعرفة التي يفتقرون اليها عن بلادنا، فيحاول إيجاد القبول في مجتمع عنصريّ ضد بني جنسه، عبر استخدام هويته، بزعم امتلاك معرفة تعين المستعمِر في غزوه وفي حكمه، فبحسب دباشي: "هم قادرون على لعب دور الخبير فيما هم لا يخبرون فاتحيهم بما يحتاجون لأن يعرفوه، بل ما يريدون أن يسمعوه وفي المقابل، يطلق عليهم أسيادهم من الليبراليون الاوروبيون والأميركيون تسمية "أصوات معارضة"، وحين صدم هؤلاء بالجو الكاره للإسلام في بلادهم الجديدة، تعلّموا فنّ الاعتراف بأصولهم المسلمة وإنكارها في الآن ذاته، ذلك أن المخبر المحلي عارض مرضي أنتجته حالة الاستعمار، فهم يمارسون نشاطهم تحت شعارات نبيلة، كالدفاع عن حقوق الانسان، وحقوق المرأة، والحقوق المدنية للمسلمين أنفسهم، والطريقة الفاضحة التي يشيطن بها هؤلاء المخبرون ثقافاتهم ومجتمعاتهم متاحة بفضل الحماية التي يتمتعون بها حين ينتقلون الى مراكز القوة في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية".

خلاصة القول أن ثورات الربيع العربي شكلت تهديدا لمصالح النظام العولمي النيوليبرالي الإمبريالي وأتباعه من الدكتاتورين المحليين، وشبكة عملائه من المخبرين من أصحاب دكاكين المتاجرة بسلعة الحريات وحقوق الإنسان، ومتعهدي بسطات تمكين المرأة، وأحلاس مقاهي الديمقراطية والتعددية، وزعانف ثكنات الحرب على الإرهاب، أما الثورة العربية فلا تزال مستمرة بعز عزيز أو بذل ذليل.