أعلنت حركة
النهضة التونسية على لسان رئيسها راشد الغنوشي، السبت الماضي، أنها بصدد التحول إلى حزب يتخصص في العمل السياسي.
وقال الغنوشي في تصريحات صحفية: "نحن بصدد التحول إلى حزب سياسي يتفرغ للعمل السياسي، ويتخصص في الإصلاح انطلاقا من الدولة، ويترك بقية المجالات للمجتمع المدني ليعالجها، ويتعامل معها من خلال جمعياته ومنظومة الجمعيات المستقلة عن الأحزاب بما في ذلك النهضة".
وسبق لحركات إسلامية في دول مختلفة طرح قضية فصل الدعوي عن السياسي للنقاش والحوار، كما حدث في المغرب والأردن والسودان، فهي ليست بالجديدة بحسب الكاتب والمحلل السياسي المصري، فهمي هويدي.
ووفقا لهويدي فإن هذه القضية تختلف من منطقة لأخرى، موضحا في حديثه لـ"
عربي21" أن "العمل العام، والإسلامي أحد مجالاته الرحبة، اتسعت أبوابه وميادينه، بشكل بات يفرض على المعنيين التمييز بين الأنشطة الدعوية والسياسية ومختلف المناحي الحياتية الأخرى".
وأشار هويدي إلى أنه لم يعد مقبولا الدمج بين المجالات في الدول الكبرى، وليس من المستساغ وضعها في وعاء واحد، داعيا إلى ضرورة التمييز بين هذه المجالات من حيث النظر والعمل.
وردا على سؤال "
عربي21" حول مبررات ودوافع الإقدام على عملية الفصل بين الدعوي والسياسي، أجاب هويدي بأن العمل السياسي بطبيعته يخوض غمار صراعات باهظة التكاليف، فلماذا يفرض على الدعوي تحمل صراعات السياسي وتداعيات ممارساته ومواقفه؟
وأضاف هويدي أنه "من المعروف أن العمل السياسي بتقلباته وصراعاته يجلب على لاعبيه عواصف شديدة، فإذا كان الدعوي مستقلا ومنفصلا عن السياسي فقد حافظ على وجوده ونجا من مخاطر تلك العواصف الهوجاء".
وفي مناقشته لرافضي فكرة الفصل بين الدعوي والسياسي، أوضح هويدي أن الفصل لا يعني إنكار شمولية التصور الإسلامي للدعوي والسياسي ومختلف مناحي الحياة، بل إن الأمر يرجع إلى تغليب النظرة التكاملية بين مختلف التخصصات والنشاطات، وليست التصادمية كما قد يتصور بعضهم.
ورأى هويدي أنه في ظل التقلبات السياسية التي عصفت بالجميع، بات تمييز الدعوي عن السياسي أمرا ملحا، للمحافظة على الدعوي في حال تعرض السياسي للملاحقة والاعتقال، وهو ما لا يتحقق إلا بفك الارتباط بين الدعوي والسياسي، بفض التداخل بين صلاحيات ونفوذ قيادات المجالين.
من جهته اعتبر الداعية الإسلامي، أحد علماء إخوان الأردن، محمد سعيد أبو جعفر، الفصل بين الدعوي والسياسي شيئا جيدا وجميلا من الناحية النظرية، ومن حيث إسناد النشاطات إلى أهلها من ذوي الاختصاص والخبرة، لكنه صعب إن لم يكن مستحيلا من حيث التطبيق العملي.
وتساءل أبو جعفر: "كيف يمكن الفصل بين المجالين؟ وهل سيبقى رجالات وكوادر الدعوي في معزل عن السياسي؟ وهل الفصل يعني اعتزالهم لنشاطات السياسي وفعالياته؟ وفي مواسم الانتخابات هل من مقتضيات الفصل أن يكف الدعوي عن مساندة السياسي، ويتوقف عن دعمه ومؤازرته؟".
وأضاف أبو جعفر: "هل إذا تم الفصل بين الدعوي والسياسي، سيتخلى السياسي الإسلامي عن مرجعيته الإسلامية، وهي التي تجمعه بالدعوي وتجعلهما يلتقيان على صعيد واحد، وتعرضهما في الوقت نفسه للابتلاء والتضييق والملاحقة؟".
وجوابا عن سؤال "
عربي21" حول إمكانية تحقق حماية الدعوي في حالة ملاحقة السياسي بعد الفصل بينهما، لم يتردد أبو جعفر في وصف ذلك بـ"الوهم"، مستبعدا إمكانية تخليص الدعوي من إجراءات الملاحقة والاعتقال والتضييق، لأن الأنظمة السياسية القائمة لا تفرق بينهما حتى لو تم الإعلان عن الفصل من قبلهما.
في السياق ذاته، استحسن أستاذ الأخلاق السياسية ومقارنة الأديان في قطر، الأكاديمي الموريتاني محمد المختار الشنقيطي، الخطوة التي أعلنت عنها حركة النهضة التونسية، واصفا إياها بـ"التطور الجيد الذي يخدم
السياسة والدعوة معا، وينسجم مع الطبيعة المعقدة للمجتمعات المعاصرة، ويعمق مسار الحريات في مجتمعاتنا، التي طالما أنهكها تجميع القوة المادية والمعنوية في يد واحدة".
وتوضيحا لمبررات الفصل، قال الشنقيطي إن "منطق
الدعوة هو الاكتساب، ومنطق السياسة هو المغالبة، فغاية الدعوة كسب الخصم، وغاية السياسة غلبة الخصم، والجمع بين المنطقين يضر بكل منهما، وتعقيد المجتمعات المعاصرة يحتاج حلولا معقدة، من ضمنها الفصل بين الوظائف الاجتماعية المختلفة".
وتابع الشنقيطي: "وهذا شبيه بفصل العمل الحقوقي والخيري عن العمل السياسي في أغلب دول العالم اليوم، ثم إن الفصل يضمن مزيدا من حرية الحركة والمناورة للمجالين السياسي والدعوي، ويجعل كلا منهما متحررا من أعباء الثاني".
وأكدّ الشنقيطي لـ"
عربي21" أن "الأهم من كل هذا في حال مجتمعاتنا العربية الإسلامية الممزقة سياسيا وطائفيا هو أن يكون في المجتمع مواطن آمنة تتعالى على الخصام السياسي، ويأوي إليها الناس، ويجدون روح الإجماع والانسجام فيها".
ولفت الشنقيطي إلى أن "المسجد أهم تلك المواطن في مجتمعاتنا، فتحييد المسجد في الصراع السياسي أمر يخدم المسجد ويخدم الانسجام الاجتماعي، وسيكون من أهم ثمرات ذلك تحرير المسجد والهيئات الدينية بشكل عام من سوء استغلال الأنظمة الدكتاتورية لها، وهو أمر عانت منه مجتمعاتنا كثيرا، وعانت منه الحركات الإسلامية أكثر من غيرها".
تبقى الإشارة إلى أن اتخاذ قرارات حاسمة بشأن فصل الدعوي عن السياسي في أوساط حركات إسلامية عريقة وعريضة، يأتي في سياق سعي تلك الحركات للتكيف مع تحديات اللحظة الراهنة، وتجنيب جسم الدعوة الأكبر تبعات التضييق والملاحقة والقمع، مع ممارستها للعمل السياسي كأحزاب مستقلة وفق ما تسمح به قواعد اللعبة الديمقراطية في ظل موازين القوى السائدة والنافذة.