يحظى فوز السياسيين غير التقليديين بسبب انتماءاتهم أو برامجهم بفورة كبيرة تستمر لفترة قبل أن يتنبه الجميع لمدى انعكاس ذلك على الممارسة الفعلية بعيدا عن الوعود الانتخابية ذات السقف العالي في حملات الترشح والقدرات الفعلية للمرشح لتنفيذ سياساته، ويمكن استدعاء فوز الرئيس الأمريكي باراك أوباما مثالا حيا لهذا الأمر كأول رئيس أمريكي أسود يصل للبيت الأبيض وما حمله هذا من وعود وآمال. ولا يوجد مجال كبير للمقارنة هنا بين أوباما وعمدة لندن الجديد
صادق خان، فصلاحيات وإمكانيات ومساحة الحركة المتاحة أمام هذا الأخير أقل بكثير مما كان متاحا أمام أوباما خلال الثماني سنوات التي قضاها كرئيس لأكبر دولة في العالم كما سنشرح لاحقا.
لا يزال الأمر حاليا في طور النشوة في الفضاء العربي والإسلامي بعد أن ألقى فوز خان بمنصب
عمدة لندن بعدة أسئلة مركبة، وكانت معظم الأجوبة جاهزة ما بين الحفاوة والترحيب مدحا في دينه أو في علمانية النظام الذي سمح له بالوصول لهذا المنصب وبين التشكك والريبة من مدى تدينه من ناحية وإمكانية تأثيره في مثل هذه الأجواء من ناحية أخرى، وهو أمر مألوف ومعروف لما يطلق عليه وهج البدايات وجمال المفاجآت.
لكن هناك عدة زوايا أخرى في شخصية العمدة الجديد، وطبيعته تستحق الحفاوة بشكل أكبر، أهمها على الإطلاق أننا بصدد محامِ لحقوق الإنسان، وشخصية برلمانية ذات نفوذ حزبي كبير تصل لواحد من أهم المناصب في
بريطانيا بعد منصب رئيس الوزراء وهو عمدة لندن، وشخصية المحامي والسياسي الحزبي تختلف عن شخصية أستاذ القانون كما في وضع أوباما، إذ يكون لدى شخصية المحامي والحزبي، بحكم العمل والخبرة، قدر كبير من المرونة والدبلوماسية بما يؤهله للعب الدور السياسي بحرفية عالية، فإذا اندمج هذا مع خبرة محامي حقوق الإنسان، فإننا نكون بصدد مشروع جديد يتشكل لنمط مختلف في الممارسة السياسية في بريطانيا يعيد طرح قضايا حقوق الإنسان والحريات في إطار جديد، هذا الإطار به كثير من التفاصيل الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية تتعلق بحياة ومعيشة أكثر من ثمانية ملايين شخص هم سكان واحدة من أهم عواصم العالم، وأحد مراكز صنع القرار الدولي.
يقال إن من يحكم لندن يحكم ثلث بريطانيا، ومن يحكم ثلث بريطانيا يحكم العالم. ومنصب عمدة لندن هو منصب حديث عمره لا يتجاوز عشرين عاما، ولم يسبق خان إليه سوى رجلين هما بوريس جونسون من حزب المحافظين وكين ليفنغستون من حزب العمال، قبل ذلك كانت هناك فقط بلدية يقودها ليفنغستون الذي خاض معارك شرسة مع رئيسة الوزراء السابقة عن حزب المحافظين مارغريت تاتشر حتى تأسس منصب العمدة الذي يتم انتخابه مباشرة من السكان.
وليفينغستون كان العمدة المفضل لدى العديد من المسلمين بسبب مواقفه الداعمة للقضية الفلسطينية والمناهضة لحربي العراق وأفغانستان، وكانت صلاحياته كعمدة تؤهله لإبرام اتفاقات دولية ثنائية مع فينزويلا إبان عهد رئيسها الراحل هوغو تشافيز لتزويد مواصلات لندن العامة بالوقود، كما استقبل الشيخ يوسف القرضاوي في مقر العمدة بلندن وسط الهجوم الشرس عليه من وسائل الإعلام اليمينة، ورعى مؤتمرات إسلامية عدة، منها مؤتمر الدفاع عن الحجاب الشهير عام 2004. ربما ينتظر كثيرون مثل هذه السياسات من العمدة الجديد، وهو أمر مرشح للتكرار بالطبع، لكنني استبعده لعدة اعتبارات لعل أهمها هو اختلاف نهج ليفنغستون كقيادي يقع في أقصى يسار الحزب مع خان الذي يميل إلى يسار الوسط، بالإضافة للضغوط العنصرية واليمينية التي يعاني منها صادق خان، غير أن هذه السياسيات تشير إلى المدى الذي يمكن أن يصل إليه عمدة لندن في استقلاله عن السياسات الحكومية الرسمية فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية، والصلاحيات المحلية الواسعة الممنوحة له بحكم منصبه.
الجانب الآخر هو النفوذ الحزبي لهذا القيادي الشاب، والذي يرشحه بقوة في غضون السنوات القادمة ليكون القيادي الأول في حزب يتداول السلطة في البلاد، فهو أدار بنجاح حملة رئيس الحزب السابق إيد مليباند ووصل به إلى رئاسة الحزب في الدورة السابقة. وبعد إخفاق الحزب في
الانتخابات التشريعية الأخيرة، كان أحد الذين طرحوا حلا خارج الصندوق وهو ترشيح أحد أعضاء الحزب في أقصى اليسار من المقاعد الخلفية في البرلمان لرئاسة الحزب، وهو جيرمي كوربن، الذي كان يحتاج لأكثر من تأييد ثلاثين عضوا بمجلس العموم ليطرح اسمه للتصويت، وكان الهدف هو إعطاء تنوع في المرشحين، قبل أن يتفاجأ الجميع بشعبية الرجل بين قواعد الحزب ليقفز إلى رئاسته في خطوة أذهلت الجميع.
الأيام القادمة كفيلة بإظهار نهج خان الجديد وسط تحديات جسام تموج بها السياسة البريطانية خاصة على المستويين الأمني الداخلي والدفاعي الخارجي والذي ينعكس دوما على السياسة الداخلية، فليس لعمدة لندن دور في رسم سياسة بلاده الخارجية، لكن الأزمات تفرض عليه دوما اتخاذ مواقف، وهي أمور ستمثل اختبارات لمدى قدرته على المضي قدما في سياساته الجديدة.