لقد مثل الدكتور
عبد الرحمن بدوي (1335-1423هـ، 1917-2002م) في فكرنا المعاصر "مؤسسة فكرية" نهضت بما لم تنهض به كثير من المؤسسات!
ولقد أمضى الدكتور بدوي أكثر من نصف قرن وهو منحاز للفلسفة الوجودية -وهي فلسفة مادية ملحدة- حتى لقد كان يعد نفسه الفيلسوف الوجودي الوحيد في الشرق العربي والإسلامي، وكان الرجل خبيرا بالاستشراق والمستشرقين، نقل إلى المحيط العربي الكثير من آراء ونظريات هؤلاء المستشرقين.
لكن السنوات الأخيرة من عمر الدكتور بدوي -التي قضاها في باريس- قد شهدت صعود ظاهرة الإسلاموفوبيا، وزيادة معدلات الافتراء على الإسلام، الأمر الذي استفز الرجل، واستنفر أصالته -التي بدأت في "مصر الفتاة" و"الحزب الوطني" حزب مصطفى كامل- فطوى صفحة الوجودية، ووهب سنوات عمره الأخيرة مدافعا عن الإسلام، وكاشفا عن الجذور التاريخية لظاهرة الإسلاموفوبيا في كتابات الكثير من المستشرقين.
ولقد كتب الدكتور بدوي عن عنصرية
الغرب إزاء الإسلام، فقال: "إن عنصرية الغربيين ضد الإسلام واضحة، فالغرب -في ما يتعلق بالإسلام- يكيل ليس بمكيالين فقط، بل بعشرة أو ربما مائة مكيال، فهو أكثر عنصرية ووحشية مع الإسلام مما يمكن أن نتصور، وفي مكتبات باريس عشرات الكتب التي تقطر سما عن الإسلام، بل إن الكتابة في الإسلام قد أصبحت حكرا على ذوي الخط الأعوج!
إن كل من هب ودب من الغربيين بات يعطي نفسه الحق في الحديث عن الإسلام، وترجمة قرآنه المجيد، ولقد تألمت كثيرا لأن باحثا يهوديا يدعى "أندريه شوراكي" (كان يشغل منصب عمدة القدس) قام بوضع ترجمة للقرآن الكريم، هي عار على الترجمة والمترجمين في كل زمان، لأنها مليئة بالاعتداءات الصارخة على قداسة النص القرآني!
إن الغرب لا يريد أن يفهم من الإسلام إلا ما يريد هو أن يفهمه، ولذلك يرحب ويفسخ المجال أمام ترجمة مؤلفات الكتاب العلمانيين دون غيرها!
إنهم يحرصون على ترجمة مقالات الكتاب العلمانيين، أمثال فرج فودة وسعيد عشماوي وفؤاد زكريا، التي جمعها وترجمها من العربية إلى الفرنسية المستشرق جيل كيبيبل.
أما "أركون" فليست له رسالة سوى تشويه التراث الإسلامي؟! إنه تلميذ في مدرسة الاستشراق الاستعماري الكبرى، التي تضع نصب عينيها كهدف ثابت تشويه الإسلام، والإساءة إلى نبيه، والطعن في قرآنه المجيد، وهو يحيط نفسه بمزاعم معرفية لا أساس لها، وهو مشكوك في وطنيته، ولقد جنى على الفكر العربي جناية لا تغتفر، ولقد كتب مقدمة لترجمة "كاريمسكي" للقرآن الكريم حوت أخطاء ومغالطات لا تكاد تغتفر لدارس مبتدئ في تاريخ الفكر الإسلامي.
ولاحظت أن حياة النبي صلى الله عليه وسلم أصبحت تلوكها -عن علم وعن غير علم- ألسن الأدعياء من الكتاب الغربيين، ولذلك أردت أن أقطع عليهم هذا العبث، فقمت بترجمة السيرة النبوية لابن هشام، وأنفقت فيها عامين كاملين من العمل المتواصل، وبهذه الترجمة أكمل سلسلة الدفاع عن الإسلام بالفرنسية، وأهمها: "دفاع عن القرآن ضد منتقديه" عام 1989م، و"دفاع عن محمد ضد المنتقصين من قدره" عام 1990م، واعتزم كتابة دراسة نقدية لكل الترجمات الفرنسية التي صدرت عن القرآن الكريم في السنوات العشر الأخيرة.
إن هناك جرأة جهولة حمقاء عند هؤلاء الكتاب الأجانب، الذين يجهلون العربية، مع معلومات ضحلة عن المصادر الإسلامية، وسيطرة الحقد الدفين لديهم ضد الإسلام، ونقلهم الأكاذيب والافتراءات حول القرآن والإسلام، بعضهم من بعض، والتزامهم التبشيري الشديد التعصب والاجتراء على الإسلام، لذلك كرست جهودي في السنوات الأخيرة للدفاع عن الإسلام، وتصديت بالتفنيد والتحليل لكل الكتابات الغربية المغرضة".
هكذا انتفض الدكتور بدوي للدفاع عن الإسلام، بعد نصف قرن من الوجودية، والعبرة بالخواتيم، عليه رحمة الله.