عميل واحد يتم زرعه في موقع متقدم أكثر فائدة بكل تأكيد من جيوش مسلحة بالدبابات والطائرات. لهذا تنفق أجهزة المخابرات على عملائها بسخاء، فهم يوفرون تكلفة الدم التي قد تدفعها جيوشهم في ساحات المعارك. الفكرة بسيطة، لماذا ترهق نفسك وتحتل بلدا وتقتل جنودك وتتعرض لمساءلة برلمانك ويُقضى على مستقبلك السياسي، مادمت قادرا على زراعة عميل في موقع متقدم من الدولة التي تريد مهاجمتها؟
الاحتلال بالوكالة أو الاحتلال الناعم أرخص وأقل تكلفة وأكثر فائدة وأكثر دواما.
يمكنك دوما إحاطة عميلك في الدولة التي تستهدفها بهالة من البطولة والإنجازات الوهمية واللمعان الإعلامي، كما يمكن صناعة حالة من الوله الجماهيري وغسيل المخ المجتمعي عن طريق الإعلام، وهي تكتيكات نفسية إعلامية يعرفها جيدا المطلعون في الحقل الإعلامي.
ضع شخصا وسط الجموع يصفق فجأة عندما يتحدث الزعيم/الرئيس، وستجد الجميع يصفقون في حالة من النشوة والطرب بما قاله الزعيم، دون أن يدري أحد منهم لماذا صفق ولماذا صرخ. وليست هذه مشكلة، فمن مكان ما بعد التصفيق الهستيري سيخرج محلل سياسي ما أو خبير استراتيجي ما ليشرح للجموع المنتشية خطورة قرار الزعيم، وكيف غيرت كلماته وجه التاريخ ورسمت خريطة الشرق الأوسط، ثم قم بعدها بتحفيز الشوفينية عن طريق شعارات يطلقها أحمد سعيد ورفاقه وأغاني حماسية فارغة المضمون، وستجد أنك تتحكم بشكل جيد في تلك الجموع وستمرر قرارات العدو وكأنها قرارات وطنية، ستبني حينها السد العالي لتسحق جزءا لا بأس به من مساحة
مصر الزراعية ولتهجر المصريين من النوبة لترسيخ فصل مصر والسودان سكانيا، ثم ليُضاف بعد ستين سنة من بنائه سد آخر في أثيوبيا ليوجع مصر في إطار خطة طويلة خبيثة، تسير وفق خطوات صغيرة محسوبة لتركيع مصر أمام الكيان الصهيوني ولن ينتبه أحد.
افعل هذا وأطلق فرقك الموسيقية تحشد الجموع الغافلة بعد أن تم تدمير برنامج التشغيل الرباني في عقولها، وحل محله برنامج تشغيل آخر يمكنك على الدوام استبداله، باشتراكية عبد الناصر أو انفتاح السادات، أو النهبوقراطية كما في عهد المخلوع أو البلطجوقراطية الحالية.
لماذا تنفق كل هذه الأموال؟ فلتحتفظ بجيشك في أوروبا حاضرا سليما يتدخل وقت الحاجة، بينما عميلك يقوم بالمهمة على أكمل وجه.
ربما لا يعلم الكثيرون أن أول هدية تلقاها عبد الناصر عند ولادة ابنه، كانت بدلة طفل أهداها له يروحام كوهين ضابط المخابرات الصهيوني وقت مباحثات الهدنة قبل انقلاب 52، كما روى صديق يروحام كوهين في حوار لأحد المواقع الإخبارية.
يقول ضابط المخابرات الصهيوني يروحام كوهين عن علاقته بعبد الناصر: "دون أن ندري عانق كل منا الآخر، وبدأنا مباشرة في استئناف محادثاتنا التي كنا نجريها عندما انفصلنا من سنة".
ثم بقي معه أسبوعا كاملا كما يروي الأميرالاي سيد طه قائد قطاع الفالوجة في حرب 1948 والقائد المباشر لعبد الناصر في مفكرته.
فيما بعد، سيخرج المحللون العسكريون ليغرقوك في تحليل تفاصيل الهزيمة في 67 وسيتباكى البعض على الجيش الذي كان العدو يبدل ضباطه بالبطيخ والشمام، كما روى ضابط المخابرات الحربية اللواء فؤاد حسين في كتابه الخيانة الهادئة. ولكن الجميع سينسون البدايات وسيتناسى هؤلاء كيف كان عبد الناصر أول المعترفين بالكيان الصهيوني، وكيف كان يتصل بهم ويرسل لهم مبعوثيه الشخصيين، وكيف يتمنى السلام والرخاء بين الشعبين (السلام الدافئ في عهد عبد الناصر كان يسمى السلام والرخاء للشعبين).
وسيخرج من تحت عباءة أحمد سعيد المزيد من المغيبين ليصبحوا كتابا يغيبون المزيد من الجموع، ويحدثونهم عن وطنية الزعيم وكفاحه المزعوم ضد الاستعمار، وهكذا تصبح الحقيقة نهبا لحفنة من منافقي الأنظمة، التي صنعها الاحتلال ومن خرج من تحت عباءتهم من الصحفيين المغيبين، لننسى أطول خدعة عشناها حتى الآن.
القصة التي روتها اعتماد خورشيد عن الفتاة اليهودية التي أحبها عبد الناصر ثم هاجرت من مصر قبل انقلاب يوليو بشهر (شوف الصدف !!)، تشي بأن علاقة عبد الناصر بالكيان الصهيوني أقدم وأبعد حتى من لقائه بيروحام كوهين، وأن كيرميت روزفيلت ضابط السي آي إيه الذي كان يشرف عليه في مصر، ربما كان ترتيبا لاحقا لتهيئة العميل للحكم.
طوال الوقت كان يروحام كوهين ورفاقه يحكمون مصر خلف قناع عبد الناصر. كان جمال كوهين هو من يحكم مصر، وكان رفاق كوهين من بعده هم من يحكمون بأقنعة تحمل تارة اسم السادات وتارة اسم المخلوع، حتى وصلنا إلى مرحلة الشاويش السيسي الذي يحتل مصر بعصابته باسم أفيخاي أدرعي الآن دون مواربة.