تزامنت بطولة أوروبا لهذا العام يورو 2016 مع بطولة كوبا أمريكا في نسختها المئوية. البطولتان قدمتا فكرة عن المشهد الكروي الحالي، وإن بدرجات متفاوتة طبعاً كون أحد لم يهتم بكوبا أمريكا، وما جرى ويجري فيها وعموماً فإن المشهد أكد التراجع الكبير في مستوى وإثارة البطولات القارية الكبرى، وتفوق البطولات المحلية القوية الندية المثيرة والعالية المستوى، كما دوري أبطال أوروبا، الذي بات وبحق بمثابة كأس عالم مصغّر مع مشاركة أبرز لاعبي العالم فيه، خاصة من دول أمريكا اللاتينية العريقة.
جاءت يورو 2016 ضعيفة المستوى وإن حضرت الندية والإثارة نظراً لتقارب المستويات، وهي على علاّتها كانت أفضل بكثير وعلى كل المستويات من كوبا أمريكا، التي بدت باهتة مملة وأقرب إلى الدوريات الرتيبة في دول العالم الثالث.
ثمة أسباب عديدة لضعف وتراجع مستوى البطولات القارية عام بعد عام، وتحديداً في السنوات العشر الأخيرة حيث كل كأس عالم أو بطولة قارية أفضل من التي سبقتها، وأهم تلك الأسباب ازدياد قوة المنافسة، وارتفاع مستوى البطولات المحلية، خاصة في الدوريات الكبرى الثلاث التي تحضر فيها الإثارة المتعة والندية، مع ارتفاع مهول في عائدات البث التلفزيوني والاعلانات، واستقدام أفضل اللاعبين والمدربين على مستوى العالم، حتى إن المدرب الأرجنتينى الكبير سامباولي بات الآن في طريقه إلى أشبيلية في الدوري الإسباني، وهو من تنافس على لقب أفضل مدرب عالمي العام الماضي بصحبة العبقري بيب غوارديولا والمجتهد لويس أنريكي.
إضافة إلى الدوريات المحلية، فقد ارتفع جداً في السنوات الأخيرة مستوى دوري أبطال أوروبا، الذي بات أقوى البطولات على الإطلاق في العالم مع وجود نخبة اللاعبين والمدربين من أوروبا، أمريكا، وحتى إفريقيا، وباتت المنافسة مثيرة ممتعة ومرهقة، حتى الأمتار بل السنتميترات الأخيرة ووصول أتلتيتكو المجتهد أو ريال زيدان المتحفظ إلى النهائي. هذه السنة لا يغير من حقيقة أن البطولة ذهبت غالباً لمن استحقها في السنوات الأخيرة، خاصة الفرق ذات الإداء الهجومي الممتع، كما كان الحال مع بايرن وبرشا الذي هيمن عليها تقريباً في العقد الأخير بوصفه الفريق الأفضل الأقوى وصاحب الإداء الهجومي الأمتع.
ارتفاع مستوى البطولات المحلية والقارية في أوروبا واشتراك أبرز لاعبي أوروبا وأمريكا اللاتينية، فيها أدّى إلى وصولهم إلى البطولات القارية للمنتخبات في الصيف منهكين، مستنزفين خائري القوى، وهذا هو السبب الأبرز، والرئيس وراء انخفاض المستوى في السنوات الأخيرة.
الاستنزاف انعكس بدوره على غياب عدد كبير من أبرز اللاعبين عن بطولات الصيف أو نهاية الموسم، وفقدت الفرق خاصة الكبرى أبرز وأهم لاعبيها، كما حصل مع إيطاليا التي كسر وسطها مع غياب ماركيزيو وفيراتي، ما حوّل المدافع المجتهد بانوتشي إلى صانع ألعاب. فرنسا فقدت دفاعها مع انهيار ماتيو وفاران. أما إنجلترا فقدت أحد أفضل مدافعيها مع غياب لوك شو وأفضل مهاجميها مع غياب داني ويلبك وتيو والكوت. ألمانيا فقدت مايسترو الوسط غاندوغان والجناح الفنان رويس والمدافع الأساسي رودريغو بينما، استعادت قائدها شفاينشتايغر في الأمتار الأخيرة قبل البطولة، وكانت أول مبارياته منذ شهور في البطولة نفسها. كما كان الحال مع زميله الإيطالي موتا. إسبانيا لم تفقد سوى كاربيخال، ولكن يمكن التنبه مثلاً إلى تراجع مستوى واستنزاف لاعبين مهمين مثل إيسكو دييغو كوستا ومارتينيز، ويالتالي عدم استدعائهم لتمثيل المنتخب وواضح طبعا أن نسبة الغياب الأكبر هي في المنتخبات الكبرى صاحبة الدوريات الأكبر الأقوى والأكثر تنافسية في العالم.
عدوى الإرهاق الاستنزاف والإصابات أثّرت كذلك على مستوى كوبا أمريكا المنخفض أصلاً مع غياب ميسي، وهو شارك كاحتياط في معظم المباريات، وغياب زميله في برشا لويس سواريز عن أورجواي ما أثر على مستوى الفريق، وكان أحد أسباب خروجه المبكر من البطولة عدوى الإصابات ضربت البرازيل كذلك، وكانت أحد الأسباب وليس كلها وراء خروجها المبكر والمدوّي من الأدوار الأولى، ما كرّس واقع الكرة البرازيلية المتدهور، وأيضاً دون أن يكترث أحد أو ينال الحدث ما يستحقه من اهتمام.
الاستنزاف الإرهاق والإصابات تقف جميعها أيضا خلف تقارب المستويات في بطولة أوروبا، وبدرجة أقل في كوبا أمريكا، وهكذا انتهت معظم المباريات أو غالبيتها العظمى منها بفارق هدف، وظل التنافس على التأهل للأدوار القادمة حتى الأمتار بل السنتيميترات الأخيرة مع استثناءات تثبت القاعدة ولا تنفيها.
أما في ما يخص مستويات الفرق الكبرى، فيمكن الحديث عن أصحاب الدوريات الأربعة الكبرى إنجلترا إسبانيا إيطاليا ألمانيا، ومع إضافة فرنسا البلد المضيف وبلجيكا صاحبة الفريق الأغلى في البطولة، وبولندا التي تضم فريق يضاهي الكبار في إدائه جماعي ومستوى لاعبيه للمفارقة، فإن إنجلترا تملك لاعبين كبارا ولكن مع مدرب عادي بل أقل من عادي، بات الفربق الإنجليزي فاقد الهيبة لا يخشاه أحد. إسبانيا تملك فريق كبير نجوم كثر مع مدرب مجتهد، وهي أحد أفضل الفرق في البطولة إلى جانب إيطاليا التي تملك فريق لاعبين عاديبن لا يكاد أجد من يعرفهم، ولكن مع مدرب عبقري -هو كونتي- حوّلهم إلى فريق كبير، بل أحد أفضل الفرق في البطولة إلى جانب إسبانيا.
ألمانيا كالعادة في المقدمة، ولكن مع فريق عادي أو جيد، لاعبين جيدين مع مدرب جيد، أيضاً، ولكن تبدو أقل من إسبانيا فردياً وجماعياً، وأقل من إيطاليا جماعياً وتكتيكياً، ومع ذلك يجب التنبه إلى القاعدة الجديدة القديمة ألمانيا عادية تصل إلى النهائي أو نصف النهائي وألمانيا جيدة تفوز بالبطولة.
فرنسا الفريق المضيف تملك لاعبين كبار، ولكن منتخب عادي أو جيد مع مدرب عادي أيضا، دون إبهار أو عبقرية. وهي فازت بصعوبة في مبارياتها مع الانتباه إلى أنها عجزت عن الفوز على سويسرا المغمورة أو العادية في أفضل الأحوال.
بلجيكا تملك منتخب كبير بل ربما تكون المنتخب الأفضل على مستوى البطولة قياساً إلى أعمار اللاعبين ومهاراتهم، لكن لا تملك مدرب كبير أو استثنائي من طينة كونتي، وحتى لوف أو دل بوسكي ومع ذلك فقد تجاوز المنتخب التعثّر الاولى أمام إيطاليا، مع تغييرات شجاعة، ولو متأخرة للمدرب، وعموماً فإن البلجيكيين إذا ما كانوا يمتلكون الشجاعة والثقة فهم قادرون على المضي بعيدا.
بولندا تملك منتخب جيد جداً على المستوى الفردي والجماعي مع وجود لاعب كبير يعمل للمجموعة مثل ليفاندوفسكي، وجندي مجهول بمثابة العمود الفقري للفريق مثل لاعب وسط أشبيلية كرونشباك الذي سينتقل حتماً إلى أحد الفرق الكبرى بعد نهاية البطولة، وعموما، وكما بلجيكا إذا امتلكت بولندا الشجاعة والثقة، فهي قادرة حتماً على الذهاب بعيداً، خاصة بعد أدائها الرائع أمام ألمانيا، بل كانت الأفضل والأقرب للفوز.
إذا كان يمكن الحديث عن منتخبات أخرى، فلا بد من الإشارة إلى تركيا المخيبة للآمال رغم امتلاكها لاعبين منتخب كبير، وعدم امتلاك المدرب تريم لشجاعة وجرأة التغيير، مبكرا كما فعل مدرب بلجيكا غير أن المنتخب الذي يستحق الإشادة هو بالتأكيد ألبانيا مع مشاركته الأولى ومقارعته الكبار بشجاعة، وهو المنتخب الأفضل تكتيكياً إلى جانب إيطاليا، وهذا ليس مفاجأة كونه يمتلك أيضاً مدرب إيطالي هو أحد أفضل مدربي البطولة وأعتقد أن ترشيحه لتدريب المنتخب الإيطالي لم يأتي من قبيل الصدفة أو المجاملة.
لا يمكن تجاهل ما قدمه ويقدمه بيل مع ويلز، وما قدمه وبالأحرى ما لا يقدمه رونالدو مع البرتغال. بيل قاد فريقه بجدارة لتصدّر المجموعة والصعود إلى الدور الثاني مع إداء رائع، وعدم تعالي على رفاقه أو استهتار بالخصوم، هو عكس ما فعله رونالدو الذي لم يقدم شيئاً لفريقه، بل بدا عالة عليه، خاصة في المباراة الأولى أمام آيسلندا. كما بدا متعالياً متغطرساً فاقد للتواضع والروح الرياضية تجاه زملائه، وخصومه على حد سواء.
طبعا لا بد من الانتباه إلى الشغب الجماهيري الذي يعبر في أحد جوانبه عن التوتر التشنج العاصف في أوروبا، هذه الأيام، وبدا لافتاً أن الشغب الأبرز يأتي من جماهير أوروبا الشرقية سابقاً روسيا أو كرواتيا، حيث تبدو الفاشية واضحة في شعاراتهم وممارساتهم مع تواجد اليمين النازي أيضا وسط جماهير بعض دول أوروبا الغربية، ولكن مع عمل مؤسساتي قضائي صارم ضدهم من الاتحاد القاري والاتحادات المحلية على حدّ سواء.
ليس هناك الكثير لقوله عن الاحتفالية المئوية لكوبا أمريكا التي جرت خصيصا، واستثنائيا في أمريكا المستوى ضعيف ومتقارب حتى بيرو أخرجت البرازيل، وثم خسرت بصعوبة أمام كولومبيا القوية الفريق والأقوى حتى الآن الأرجنتين وهي تقدم بالتأكيد المستوى الأفضل، رغم غياب ميسي، عودته التدريجية وعدم استعادته لكامل لياقته، ثم إصابة دي ماريا المؤثرة بالتأكيد.
تشيلي تملك منتخبا قويا، ويبدو أنها تجاوزت ليس فقط الهزيمة الأولى أمام الأرجنتين، وإنما أيضا رحيل المبدع سامباولي وفدوم مدرب آخر مجتهد ومثابر.
في الأخير تتأكد عام بعد عام فكرة أو حقيقة تراجع البطولات القارية الكبرى مع إجرائها في نهاية الموسم، وأعتقد أنه سيتم التفكير جدياً فيما بعد في تغيير موعد البطولة لتقام وسط الموسم نهاية الشتاء أو أول الربيع، وربما تحول الروزنامة وقصص التسويق والإعلانات دون ذلك وسيجري الاكتفاء بكأس العالم المصغرة السنوية أي دوري أبطال أوروبا للأندية والبطولات المحلية التي تقوى وتشتد وتيرة التنافس فيها عام بعد عام، بينما ستتحول البطولات القارية الدولية إلى كرنفالات مربحة أو مهرجانات احتفالية ودعائية على مستوى القارة والعالم.