عاد الحديث مجددا عن انعاش مفاوضات التسوية في الشرق الأوسط، بعد أن أطلقت باريس مبادرتها لتحريك المياه الراكدة.
وقد كسبت المبادرة تأييد وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي الذين دعموا التوجّه إلى عقد مؤتمر دولي للسلام، وأعلنوا بدورهم عن الاستعداد لتقديم حوافز سياسية واقتصادية وأمنية لإنعاشها.
ولكن هل سيندفع نظام الاحتلال
الإسرائيلي حقا إلى إبرام تسوية سياسية نهائية بمفعول هذه "الحوافز"؟
لا تقوى العروض الأوروبية الجديدة على إغراء صانعي القرار الإسرائيلي الذي يحصل حاليا على حوافز كافية للحفاظ على الوضع الراهن. فالجانب الإسرائيلي ينعم مثلا بمساندة دبلوماسية أوروبية وغربية مستقرة في المجتمع الدولي، كما تبيّن من جديد من خلال تمكينه مؤخرا من رئاسة لجنة القوانين في الأمم المتحدة.
فقد أتاح هذا الترشيح الذي دفعت به الدول الغربية لدولة احترفت انتهاك القانون الدولي أن تتقلد موقعا بارزا بكل ما يحمله ذلك من رسائل رمزية ومكاسب دبلوماسية لنظام احتلال مزمن.
لكن يجدر التساؤل عن معنى الحوافز السياسية والاقتصادية والأمنية تحديدا، كما وردت الإشارة إليها في بيان وزراء الخارجية الأوروبيين المنعقد في لوكسمبورغ (20 حزيران/ يونيو) في دعمهم المبادرة الفرنسية وفكرة عقد مؤتمر دولي للسلام؟
بات واضحا أن الحوافز الأمنية هي من نصيب الإسرائيليين كالعادة، ومفهومها أن تضمن أي تسوية قادمة التطلعات الإسرائيلية في مجال الأمن، بما يعني أن تكون "دولة فلسطين" التي قد ترى النور، مغلولة إلى عنقها بالتزامات دائمة تخدم السياسات الأمنية لنظام الاحتلال.
لا حديث في هذا المقام بالطبع عن سلطات أمنية فلسطينية مستقلة بالكامل أو قادرة على حماية شعبها من أي تعديات إسرائيلية كالتي تجري باستمرار على الأرض في الضفة الغربية، أو على النحو الصادم الذي يتم بين حين وآخر بحق السكان في قطاع غزة.
فحقيقة المقصود بالأمن كلما جاء في لغة التسوية السياسية، هو أمن الإسرائيليين لا أمن الفلسطينيين.
لا حوافز فعلية في هذا الجانب، فالقيادة الإسرائيلية تعلن بصفة متكررة ارتياحها للترتيبات الأمنية السارية حاليا مع السلطة الفلسطينية، ولا يبدو أنها بحاجة إلى مزيد من الحوافز في هذا الاتجاه. وتكفي إعلانات محمود
عباس الدؤوبة عن التزامه بما يسمى "التنسيق الأمني" مع الأجهزة الإسرائيلية المختصة، بينما تعلن الأخيرة عن امتنانها للخدمات الاستخبارية التي تتلقاها من الجانب الآخر الذي يعمل تحت العلم الفلسطيني. فأي حوافز أمنية إضافية بوسع الأوروبيين أن يقدموها لنظام احتلال يتلقى خدمات سخية كهذه؟
تبقى الحوافز السياسية والاقتصادية، وبعضها مخصص في الواقع لاستمالة الجانب الفلسطيني وتشجيعه على التفاوض وإبرام اتفاق ما. ومن حق الفلسطينيين على أي حال أن يفهموا ذلك على طريقتهم، بأنها أثمان مدفوعة لقاء تنازلهم عن حقوقهم خلال صياغة اتفاق رديء.
قد نشهد مزيدا من جولات التصفيق في الشهور المقبلة إذا ما انطلق قطار المفاوضات مجددا، مع مشاهد المصافحة الدافئة والابتسامات المحفوفة بالاستبشار. لكنّ هذا كله سيكوناستعادة تقريبية لما جرى خلال ربع قرن عبر محطات التفاوضات الماراثونية منذ انعقاد مؤتمر مدريد للسلام سنة 1991، والنتيجة هي ما يراه الجميع على الأرض من سيطرة إسرائيلية مطلقة.
على أوروبا أن تصارح نفسها بالحقيقة، بأنّ حزمة الحوافز التي تم التلويح بها ستعجز عن تطويع القرار الإسرائيلي الذي يمسك به اليوم نتنياهو العنيد وشريكه الأرعن ليبرمان مع جوقة الوزراء المتشددين وجنرالات الحرب.
ومع غياب إرادة سياسية أوروبية وغربية بالضغط على نظام الاحتلال لا يمكن انتظار أي زحزحة في الموقف الإسرائيلي.
على الجانب الآخر، فإنّ الحديث عن حوافز على هذا النحو، كفيل بأن يدفع الفلسطينيين مجددا إلى وضع أيديهم على قلوبهم، خشية أن تكون هذه ثمنا لتنازلات إضافية يُطلب من قيادتهم الرسمية الضعيفة أن تجترئ عليها.
إنها مخاوف مشروعة على أي حال، خاصة عندما لا تتطرّق البلاغات الأوروبية لمفهوم السيادة الفلسطينية، وتتجاهل الإشارة إلى مراعاة العدالة وحقوق الشعب الفلسطيني في المفاوضات.
ينبغي الاعتراف بأنّ الجانب الإسرائيلي يحصل في الوقت الراهن على حوافز سياسية واقتصادية وأمنية كافية لتشجيعه على الاستمرار في استراتيجية الاحتلال والاستيطان والحصار والفصل العنصري.
وإن لم تكن أوروبا والولايات المتحدة مستعدة لممارسة ضغوط حقيقية على نظام يمارس الاحتلال والاستيطان غير المشروع والانتهاكات الجسيمة على الأرض؛ فإن المبادرة الفرنسية المدعومة أوروبيا ودوليا ستذروها الرياح، لكن بعد متاهة تفاوضية إضافية يتخللها كثير من التصفيق والابتسامات.