ما زالت تبعات خروج
بريطانيا من الاتحاد الأوربي تدلي بدلوها في ساحة الاقتصاد العالمي، وقد لوحظ الأثر الاقتصادي السريع بعد نتائج الاستفتاء مباشرة من خلال تراجع الجنيه الإسترليني، واليورو، وارتفاع الدولار، وخسائر في رأس المال السوقي في العديد من البورصات العالمية، وانخفاض أسعار النفط، وارتفاع سعر الذهب -لما له من مقدرة على حفظ القيمة وخاصة في حال الأزمات وما يليها من فترة ضبابية - وهو ما أعاد للأذهان الأزمة المالية العالمية التي انفجرت شرارتها في الولايات المتحدة الأمريكية في العام 2008م.
إن واقع الحال يكشف أن مصائب قوم عند قوم فوائد، فمن المتوقع أن تكون ألمانيا هي المستفيد الأكبر من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي، حيث يعطيها ذلك الفرصة للتوسع والتمدد وإحلالها محل بريطانيا خاصة وأن ألمانيا تحتل المركز الأول كأكبر اقتصاد أوربي تليها فرنسا ثم بريطانيا، فيمكن لألمانيا أن تحل كمركز مالي عالمي محل بريطانيا التي تمثل ثاني مركز مالي عالمي بعد الولايات المتحدة. كما أنه-يوجد 100 شركة من أكبر 500 شركة في أوربا تتمركز في بريطانيا، ومن المرجح انتقال مراكز بعض هذه الشركات لألمانيا.
ويساعد في ذلك وجود المصرف المركزي الأوربي في فرانكفورت، وقد صرح هوبيرتوس فاث من شركة فاينانس في فرانكفورت، وهى مجموعة تروج للمدينة باعتبارها مركزا ماليا: بأنه "من المؤكد أن نرى انتقال نحو عشرة آلاف فرصة عمل من لندن إلى فرانكفورت خلال السنوات الخمس المقبلة، المصارف الأمريكية والألمانية والسويسرية هي الأكثر احتمالا لأن تنتقل، كما أنه من الواضح أن أنشطة التداول ستنتقل إلى فرانكفورت"، ومع ذلك فإن فرانكفورت تواجه تحديا من داخلها ممثلا في عدم المرونة النسبية لقانون العمل الألماني.
ونتيجة لذلك يري آخرون أن فرنسا ستكون لها فرصة للإحلال محل مركز بريطانيا المالي وحجنهم في ذلك تمتع باريس بنظام مالي قوي، مع وجود خمسة مصارف من أكبر عشرين مصرفا في أوربا بحسب الأصول، كما أن بها صناديق استثمار تدير نحو 3.6 تريليون يورو. ومع ذلك فإن باريس تواجه تحديا من داخلها ممثلا في الارتفاع الملحوظ للضرائب على الشركات والأفراد.
ولا أحد ينكر أن استفادة بريطانيا من خروجها من الاتحاد الأوربي يتركز اقتصاديا في الحد من مشكلة البطالة التي وصل معدلها نحو 6 في المئة، كنتيجة طبيعية لقيود تأشيرة الدخول والترخيص بالعمل التي ستلزم دول الاتحاد الأوربي، ومع ذلك فإن هذه القيود ستواجه بريطانيا أيضا نتيجة للمعاملة بالمثل من 27 دولة تمثل دول الاتحاد الأوربي، وهو ما قد يكون تأثيره سلبي على العمالة البريطانية التي تعمل في دول الاتحاد الأوربي والتي تقدر بنحو 1.3 مليون بريطاني، وكذلك على ارتفاع تكلفة السياحة البريطانية خارج بريطانيا لانخفاض قيمة الجنيه الإسترليني .
كما أن انتقال مراكز المال والأعمال من بريطانيا إلى ألمانيا أو فرنسا ينذر بفقد آلاف الوظائف، خاصة وأن جيمي ديمون رئيس مجلس إدارة بنك (جي بي مورجن) حذر في مستهل حزيران/ يونيو/ 2016 من أن: "البنك الذي يعمل لديه أكثر من 16 ألف شخص في المملكة المتحدة يمكن أن يلغي ما بين ألف وأربعة آلاف وظيفة". إضافة إلى أن نحو 1000 كادر بريطاني يعملون في المؤسسات الأوربية، خاصة في بروكسل يتسم مصيرهم بالضبابية.
ولن تتوقف الأمور عند هذا الحد بل قد يؤدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي إلى الإسراع من تأثير نظرية الدومينو في أنحاء دول الاتحاد الأوروبي، بالخروج المتتالي لمزيد من الدول من الاتحاد الأوروبي، وتفكك هذا الاتحاد وانهياره، وفي هذا الإطار دعا الزعيم الهولندي المعارض للهجرة، خيرت فيلدرز، إلى استفتاء على عضوية هولندا في الاتحاد الأوروبي بعد أن صوتت بريطانيا لصالح الخروج من الاتحاد، كما دعا إلى ذلك أيضا حزب الجبهة الوطنية اليميني في فرنسا.
بل قد تكون نظرية الدومينو ذاتها وبالا على المملكة المتحدة نفسها، بتحويلها إلي دويلات من خلال مطالبة إسكتلندا وإيرلندا الشمالية بالانفصال، خاصة أنهما صوتا لصالح البقاء في الاتحاد الأوربي. بل ووبالا على الولايات المتحدة فقد يشجع ذلك بعض الولايات في الولايات المتحدة الأمريكية علي المطالبة بالانفصال لا سيما وأن هناك العديد من الولايات التي ترغب في الانفصال، وفي مقدمتها ولايات تكساس وفلوريدا ونيويورك.
ورغم تلك الحوادث الجسام فإن العرب والمسلمين لا يزالون على هامش الاقتصاد العالمي، باعتبارهم تابع لا متبوع، فأموالهم في بريطانيا سواء أكانت استثمارات مالية أو عقارية تحيط بها الخسائر من كل جانب، كما أن انخفاض سعر البترول يزيد من خسائر الدول النفطية، ومع ذلك فإن الفرص قد تخرج من رحم الأزمات، وقد تأتي الأحداث الجسام للعظة والاعتبار.
ومنذ أيام وقبل الاستفتاء لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوربي من عدمه، استبعد رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون فكرة دخول تركيا إلى الاتحاد في أي وقت قريب، قائلا إن العملية الحالية نحو عضوية تركيا تعني أنها لن تصير عضوا حتى عام 3000 للميلاد. وإذا ببريطانيا نفسها هي التي تخرج من الاتحاد الأوربي. بل ويعلن رئيس الوزراء البريطاني أنه سيستقيل من منصبه بحلول تشرين الأول/ أكتوبر القادم!!.