انتهى الخلاف حول طباعة عملة جديدة الذي كان ناتجا عن الانقسام المؤسسي في البلاد بوجود مصرفين مركزيين في طرابلس والبيضاء، بأن تم تداول العملة الممهورة باسم محافظ مركزي البيضاء في المنطقة الشرقية، بينما تم توزيع العملة التي تحمل توقيع محافظ مركزي طرابلس في المنطقة الغربية والجنوب.
السؤال اليوم: ماذا بعد أن تنفد الكميات من العملة التي تم طباعتها في كل من بريطانيا وروسيا؟ فأزمة الثقة في المصارف ما تزال قائمة، ولا يعود من النقود التي تخرج من المصارف إلا النزر اليسير.
استمرار طباعة نقود جديدة لا يمكن أن يكون حلا للأزمة، وهي مسألة باتت بديهية؛ فالأسعار في ارتفاع والاستمرار في هذا الخيار يعني أن الدينار الليبي سيصل إلى مستوى متدن من قيمته بشكل ينذر بكارثة اقتصادية.
قد يتفاوت المدى الزمني لإدارة أزمة السيولة عبر تدوير عملة جديدة في شرق البلاد وغربها لأسباب تتعلق بكميات النقد التي تم التعاقد على طبعتها، وأيضا للكثافة السكانية ولحجم الطلب على السيولة في كلا المنطقتين. فالتقديرات الأولية للمرتبات الحكومية تصل إلى 450 مليون دينار للشهر الواحد في طرابلس، وهو ما يكفي لتغطية القيمة الإجمالية لنحو 80% ممن يعتمدون على الخزانة العامة في المنطقة الشرقية، وعلى أي حال الفروق لن تكون كبيرة، وبالتالي فإن أزمة السيولة متجهة إلى مزيد من التأزيم، وسينتهي مفعول "المسكن" قريبا.
مركزي طرابلس في آخر بياناته أكد أن طباعة العملة ليس حلا جوهريا، وأن الحلول المثلى ينبغي أن تتعلق بجذور الأزمة، وأي خيارات أخرى لا يمكن أن تخرج البلاد من ورطتها الاقتصادية والمالية.
"جذور الأزمة" تطلق ويراد بها هيكل الاقتصاد الليبي الذي يعتمد بشكل كبير على إيرادات النفط، ولا تشكل مشاركة القطاعات الإنتاجية والخدمية الأخرى إلا نسبة محدودة من الناتج المحلي الإجمالي. ولكن المراد هنا هو أزمة حقول إنتاج وموانئ تصدير النفط التي تم إغلاق معظمها من قبل قوة تابعة لحرس المنشآت في الشرق، وكتائب تابعة لمدينة الزنتان في الغرب؛ فمنذ تراجع إنتاج النفط وتصديره منتصف عام 2013 اتجه المصرف المركزي إلى الاحتياطي من العملات الصعبة لإدارة النشاط الاقتصادي، ولأن الاحتياطي وصل إلى مستوى متدن جدا (نحو 14 مليار حسب معلومات مسربة من المصرف)، فقد اتجه المحافظ إلى فرض رقابة صارمة على العملة الصعبة، وتم إيقاف الاعتمادات التي يتكل عليها الليبيون في توفير 70-80% من طعامهم ودوائهم وكسائهم ومستلزمات عيشهم الأخرى.
نتج عن الرقابة الشديدة تفاوت كبير بين السعر الرسمي للدينار الليبي مقابل العملات الصعبة، وسعره في السوق الموازية، وكان من ضمن التداعيات الاحتفاظ بالنقود المحلية خارج منظومة المصارف، الأمر الذي قاد إلى تفاقم أزمة السيولة.
إذا لاحل للأزمة الراهنة إلا بأن يعود إنتاج وتصدير النفط إلى مستوياته السابقة أو مستوى قريب.
أمام عودة إنتاج وتصدير النفط تحديات، وبرغم أن اتجاه الصراع الداخلي يشير إلى إمكانية أن تصل حكومة الوفاق إلى اتفاق مع القوة المسؤولة عن إيقاف تصدير النفط في المنطقة الوسطى، إلا إنه لا ضمانة أن يستمر التدفق، وذلك في ظل اختلال ميزان القوى وافتقار حكومة الوفاق إلى السلطة والمنعة التي تمكنها من السيطرة على المصادر الحيوية للدخل.
وحتى في حال عاد إنتاج وتصدير النفط إلى مستواه السابق واستقر على ذلك، فإن اختلال معادلة الإيرادات والمصرفات في الميزانية العامة في ظل الأسعار العالمية للخام الأسود، قد لا يساعد على معالجة الأزمة الاقتصادية الراهنة.
ارتفاع فاتورة المرتبات والدعم السلعي ودعم المحروقات في ظل الأسعار الحالية للنفط، يعني استنفاد الإيرادات المتاحة، وبالتالي عدم إمكانية توحيد سعر صرف الدينار الليبي في السوقين الرسمي والموازي وعدم توفر عملات صعبة لتغطية الاعتمادات، التي تشكل أحد أهم عوامل تدوير النقد المحلي ليتم من خلاله توفير السيولة للمواطنين.
هناك فرصة أمام الحكومة لجذب نسبة من الـ25 مليار دينار المكتنزة خارج المصارف عبر استخدام أدوات تقليدية لجذب النقد إلى المصارف؛ منها إصدار سندات حكومية بأسعار مغرية، ولكنها ستظل محدودة الأثر في الكم والمدى الزمني، وبالتالي لا خيار عن الدفع باتجاه الاستقرار عبر التوافق وإنهاء الأزمة السياسية، للتفرغ لاحتواء الأزمة الاقتصادية.