يمكن أن نقول كلاما كثيرا، صادقين أو مدّعين، إننا رفضنا انقلاب الجيش التركي على الحكومة الشرعية، انتصارًا لمبادئ الديمقراطية وأخلاق الممارسة السياسية، ولكنّه لا يعيبنا أبدًا أن نرفض ذلك الانقلاب، وأن نتفاعل بكامل ما أوتينا من طاقة عصبية وذهنية مع الحدث، انتصارًا لأنفسنا أيضًا، نحن عربًا ومسلمين، وإسلاميين منهم على وجه الخصوص.
من وجهة نظري أن دور البشر في التاريخ مترابط بما يتجاوز الجغرافيا والحقب الزمنية، ومن باب أولى فإن الحدث في مجالنا العربي والإسلامي، ولا سيما ذلك الواقع في مجالنا الإقليمي، والمحايث للحظتنا هذه، متصل بنا، بحياتنا وصيرورتنا، وثمة دائمًا عوامل ظاهرة وخفية، أحيانًا تستعصي على الإحاطة، تربط البشر ببعضهم، وكل الأحداث التي تجري في الإقليم، وفي القلب منه المجال العربي، وما اتصل به من جوار إسلامي، في السنوات الست الأخيرة، تثبت أننا أكثر ارتباطًا ببعضنا مما كنا نتخيل أو نرجو.
ومن ثم فإن نجاح مشروع نهضوي، أو تحرري، أو نموذج يقدم مقترحًا متطورًا لإدارة اجتماعنا السياسي، في مجالنا العربي والإسلامي، لهو مشروعنا أو نموذجنا، دون أن يقتضي ذلك التماهي معه، أو موافقته في جميع كلياته وجزئياته، أو الذوبان في قادته وأصحابه، ليس فقط من باب ارتباطنا العاطفي والروحي، وهو ارتباط لا يمكن لنا أن نتجرد منه، ولا ينبغي لنا أساسًا أن نتجرد منه، أو أن نقبل به تهمة نخجل منها ونحاول درأها عن أنفسنا، ولكن أيضًا، لأننا فعلاً وواقعًا نتأثر بنجاح جيراننا الذين يشبهوننا كثيرًا كما نتأثر بفشلهم، ويمكن لنا أن نبني أو نطوّر على أي حدث مجاور لنا، فضلاً عن أن يكون حدثًا واقعًا في القلب منا.
إلا أن الأمر، في حالة الانقلاب التركي الفاشل، أكثر ارتباطًا بنا، من كل ما سبق، لأنه جزء من حالة التدافع الهائلة الجارية في الإقليم، فهر ليس مجرد حدث متصل بنموذج قريب ملهم، ولكنه حدث منعقد في جملة الأحداث الجارية في السنوات الأخيرة، منذ اندلاع الثورة التونسية وحتى اللحظة.
الذين أرادوا قتل أردوغان وإزاحة العدالة والتنمية من الحكم، لم يكونوا مجرد ضباط متخوّفين على رتبهم ومصالحهم، أو كارهين لأردوغان وحزبه إيديولوجيًّا، ولكنهم هم أنفسهم الذين اقترفوا المذبحة في مصر، أي ذات القوى الدولية والإقليمية التي خططت لانقلاب عبد الفتاح السيسي وموّلته ودعمته وثبّتته، وهي نفس القوى الدولية والإقليمية المتحالفة علنًا، والمتواطئة سرّا مع العدو الصهيوني، إنها ذات القوى التي تقتلنا في مصر، وتحاصرنا في غزة، وتحتلّنا في فلسطين.
لا يحتاج الأمر إلى كثير من الاستدلال لإثبات وقوف القوى الدولية والإقليمية المناوئة لتحرر الأمة ونهضتها، خلف انقلاب الضباط الأتراك، ولكن يكفي أن ننظر في الأداء السياسي والتغطية الإعلامية لهذه القوى، فذات القوى التي سكتت حتى بدت بوادر فشل الانقلاب، أو كانت سافرة في التعاطف مع الانقلاب، هي التي عادت لاتهام أردوغان بالديكتاتورية، أو لابتزازه من أجل حماية الانقلابيين، ووقف التحقيق معهم.
يمكن أن نختلف كثيرا مع أردوغان، وحتى مع بعض سياساته التي اتّبعها في سنوات حكمه الأولى، وجَعَل منها مدخلاً لاستمرار مشروعه وحمايته، وظل يعود إليها كلما شعر بما يهدّد مشروعه، وقد سبق وأن قلت إن اقترابنا من مشروعه لا يقتضي بأي حال التماهي معه، أو موافقته في كل شيء، أو الذوبان فيه.
ولكن، ودون الاستناد لإحسان الظن الذي لا يصلح في محاجّة المخالفين سياسيًّا أو إيديولوجيًّا، فإن بعضًا مهمًّا من سياسات أردوغان الأخيرة تجاه أحداث الإقليم، كانت خارج الإرادة الأمريكية، كما أن مشاريع النهوض بدولة مسلمة كبرى مثل تركيا، لن تظل محل سكوت من طرف القوى الغربية، إذ ينبغي أن تبقى تركيا تابعة ووظيفية وضعيفة ومحتاجة، وهذا فضلاً عن الذاكرة الغربية المستفَزّة بما تعنيه إسطنبول، وبالصراع التاريخي مع الدولة العثمانية، وهي ذاكرة متحفّزة لأي سياسة تركية جديدة تتّصل بذلك العهد القديم.
إقليميّا، ثمة عدد من الدول العربية، تربط بينها مجموعة من الروابط المتضافرة، من كونها وظيفية، وحكوماتها مصنّعة في المختبرات الغربية والصهيونية، وأخيرًا في كونها كتلة الثورة المضادة، والأداة التنفيذية في استهداف الحركة الإسلامية، وأمّا الأتباع والمرتزقة الدائرون في فلك هذه الكتلة، فمواقفهم تبع لذلك، وهي سخيفة وتافهة بما يفرّغ النقاش معهم من معناه، إذ ما محلّ الوجاهة فيمن يدافع عن دموية انقلاب السيسي بإجراءات أردوغان الأمنية عقِب الانقلاب؟! وما محلّ النظر فيمن يهاجم الاتفاق التركي الصهيوني الأخير، وفي الوقت نفسه يدافع عن تهتّك عبد الفتاح السيسي بين يدي سيّده الصهيوني؟!
وإذا كانت ثمة مجموعة إقليمية أخرى، قد لا تبني موقفها المتعاطف مع الانقلاب على أسباب التبعية للقوى الغربية، فإنها تفعل ذلك، للأسف، لأنها تلتقي مع تلك المجموعة في كونها أيضًا ممثلاً آخر للثورة المضادة، بما يستتبع كراهية للحركة الإسلامية وعلاقاتها وصداقاتها.
كثيرٌ ممن رفض الانقلاب، حاول القول بأن الموقف مبدئي وأخلاقي صرف، وكثيرٌ أجاب على السؤال التافه: “وماذا فعل لنا أردوغان؟!”، بالقول: المهم أنه فعل لشعبه.. ولكننا في الحقيقة، حتى وإن سكنتنا مشاعر الضيق بالخيانة ودناءة الأخلاق التي يمثّلها الانقلاب، فإننا أيضًا كنّا نفكر في أنفسنا، في مصيرنا ومآلنا، وعذاباتنا المترتبة على هذا الانقلاب.
في ساعات الانقلاب الأولى، لم تغادر عقلي صور كل أصدقائي الفلسطينيين والمصريين والسوريين، المشرّدين والمنفيين، والفارّين من جحيم الاحتلال أو جحيم الطاغوت، ثم تجد تافها يريدني أن أنسى المصير المحتمل لهؤلاء، من طرد وتشريد جديد في أحسن الأحوال، إلى اعتقال وتسليم للأعداد والطغاة في أسوأ الاحتلال، ويقول لي بكل فحش: “وماذا فعل لنا أردوغان؟!”.
من وجهة نظري أن دور البشر في التاريخ مترابط بما يتجاوز الجغرافيا والحقب الزمنية، ومن باب أولى فإن الحدث في مجالنا العربي والإسلامي، ولا سيما ذلك الواقع في مجالنا الإقليمي، والمحايث للحظتنا هذه، متصل بنا، بحياتنا وصيرورتنا، وثمة دائمًا عوامل ظاهرة وخفية، أحيانًا تستعصي على الإحاطة، تربط البشر ببعضهم، وكل الأحداث التي تجري في الإقليم، وفي القلب منه المجال العربي، وما اتصل به من جوار إسلامي، في السنوات الست الأخيرة، تثبت أننا أكثر ارتباطًا ببعضنا مما كنا نتخيل أو نرجو.
ومن ثم فإن نجاح مشروع نهضوي، أو تحرري، أو نموذج يقدم مقترحًا متطورًا لإدارة اجتماعنا السياسي، في مجالنا العربي والإسلامي، لهو مشروعنا أو نموذجنا، دون أن يقتضي ذلك التماهي معه، أو موافقته في جميع كلياته وجزئياته، أو الذوبان في قادته وأصحابه، ليس فقط من باب ارتباطنا العاطفي والروحي، وهو ارتباط لا يمكن لنا أن نتجرد منه، ولا ينبغي لنا أساسًا أن نتجرد منه، أو أن نقبل به تهمة نخجل منها ونحاول درأها عن أنفسنا، ولكن أيضًا، لأننا فعلاً وواقعًا نتأثر بنجاح جيراننا الذين يشبهوننا كثيرًا كما نتأثر بفشلهم، ويمكن لنا أن نبني أو نطوّر على أي حدث مجاور لنا، فضلاً عن أن يكون حدثًا واقعًا في القلب منا.
إلا أن الأمر، في حالة الانقلاب التركي الفاشل، أكثر ارتباطًا بنا، من كل ما سبق، لأنه جزء من حالة التدافع الهائلة الجارية في الإقليم، فهر ليس مجرد حدث متصل بنموذج قريب ملهم، ولكنه حدث منعقد في جملة الأحداث الجارية في السنوات الأخيرة، منذ اندلاع الثورة التونسية وحتى اللحظة.
الذين أرادوا قتل أردوغان وإزاحة العدالة والتنمية من الحكم، لم يكونوا مجرد ضباط متخوّفين على رتبهم ومصالحهم، أو كارهين لأردوغان وحزبه إيديولوجيًّا، ولكنهم هم أنفسهم الذين اقترفوا المذبحة في مصر، أي ذات القوى الدولية والإقليمية التي خططت لانقلاب عبد الفتاح السيسي وموّلته ودعمته وثبّتته، وهي نفس القوى الدولية والإقليمية المتحالفة علنًا، والمتواطئة سرّا مع العدو الصهيوني، إنها ذات القوى التي تقتلنا في مصر، وتحاصرنا في غزة، وتحتلّنا في فلسطين.
لا يحتاج الأمر إلى كثير من الاستدلال لإثبات وقوف القوى الدولية والإقليمية المناوئة لتحرر الأمة ونهضتها، خلف انقلاب الضباط الأتراك، ولكن يكفي أن ننظر في الأداء السياسي والتغطية الإعلامية لهذه القوى، فذات القوى التي سكتت حتى بدت بوادر فشل الانقلاب، أو كانت سافرة في التعاطف مع الانقلاب، هي التي عادت لاتهام أردوغان بالديكتاتورية، أو لابتزازه من أجل حماية الانقلابيين، ووقف التحقيق معهم.
يمكن أن نختلف كثيرا مع أردوغان، وحتى مع بعض سياساته التي اتّبعها في سنوات حكمه الأولى، وجَعَل منها مدخلاً لاستمرار مشروعه وحمايته، وظل يعود إليها كلما شعر بما يهدّد مشروعه، وقد سبق وأن قلت إن اقترابنا من مشروعه لا يقتضي بأي حال التماهي معه، أو موافقته في كل شيء، أو الذوبان فيه.
ولكن، ودون الاستناد لإحسان الظن الذي لا يصلح في محاجّة المخالفين سياسيًّا أو إيديولوجيًّا، فإن بعضًا مهمًّا من سياسات أردوغان الأخيرة تجاه أحداث الإقليم، كانت خارج الإرادة الأمريكية، كما أن مشاريع النهوض بدولة مسلمة كبرى مثل تركيا، لن تظل محل سكوت من طرف القوى الغربية، إذ ينبغي أن تبقى تركيا تابعة ووظيفية وضعيفة ومحتاجة، وهذا فضلاً عن الذاكرة الغربية المستفَزّة بما تعنيه إسطنبول، وبالصراع التاريخي مع الدولة العثمانية، وهي ذاكرة متحفّزة لأي سياسة تركية جديدة تتّصل بذلك العهد القديم.
إقليميّا، ثمة عدد من الدول العربية، تربط بينها مجموعة من الروابط المتضافرة، من كونها وظيفية، وحكوماتها مصنّعة في المختبرات الغربية والصهيونية، وأخيرًا في كونها كتلة الثورة المضادة، والأداة التنفيذية في استهداف الحركة الإسلامية، وأمّا الأتباع والمرتزقة الدائرون في فلك هذه الكتلة، فمواقفهم تبع لذلك، وهي سخيفة وتافهة بما يفرّغ النقاش معهم من معناه، إذ ما محلّ الوجاهة فيمن يدافع عن دموية انقلاب السيسي بإجراءات أردوغان الأمنية عقِب الانقلاب؟! وما محلّ النظر فيمن يهاجم الاتفاق التركي الصهيوني الأخير، وفي الوقت نفسه يدافع عن تهتّك عبد الفتاح السيسي بين يدي سيّده الصهيوني؟!
وإذا كانت ثمة مجموعة إقليمية أخرى، قد لا تبني موقفها المتعاطف مع الانقلاب على أسباب التبعية للقوى الغربية، فإنها تفعل ذلك، للأسف، لأنها تلتقي مع تلك المجموعة في كونها أيضًا ممثلاً آخر للثورة المضادة، بما يستتبع كراهية للحركة الإسلامية وعلاقاتها وصداقاتها.
كثيرٌ ممن رفض الانقلاب، حاول القول بأن الموقف مبدئي وأخلاقي صرف، وكثيرٌ أجاب على السؤال التافه: “وماذا فعل لنا أردوغان؟!”، بالقول: المهم أنه فعل لشعبه.. ولكننا في الحقيقة، حتى وإن سكنتنا مشاعر الضيق بالخيانة ودناءة الأخلاق التي يمثّلها الانقلاب، فإننا أيضًا كنّا نفكر في أنفسنا، في مصيرنا ومآلنا، وعذاباتنا المترتبة على هذا الانقلاب.
في ساعات الانقلاب الأولى، لم تغادر عقلي صور كل أصدقائي الفلسطينيين والمصريين والسوريين، المشرّدين والمنفيين، والفارّين من جحيم الاحتلال أو جحيم الطاغوت، ثم تجد تافها يريدني أن أنسى المصير المحتمل لهؤلاء، من طرد وتشريد جديد في أحسن الأحوال، إلى اعتقال وتسليم للأعداد والطغاة في أسوأ الاحتلال، ويقول لي بكل فحش: “وماذا فعل لنا أردوغان؟!”.
شارك
المزيد من هذا الكاتب
