محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة التي قامت بها مجموعة من الضباط الموالين لجماعة غولن والتطورات المتسارعة التي شهدتها
تركيا منذ مساء الخامس عشر من الشهر الجاري، كشفت مرة أخرى عن ازدواجية الدول الغربية في التعامل مع مثل هذه القضايا على الرغم من تغنيها بالديمقراطية.
الدول الغربية تجاهلت الخطر الكبير الذي تعرض له النظام الديمقراطي في تركيا، وسقوط أكثر من 250 قتيلا بالإضافة إلى مئات المصابين، وإطلاق النار على المدنيين العزل، وتمزق أجسادهم تحت عجلات الدبابات، وقصف مقر جهاز الاستخبارات ومقر قوات المهام الخاصة ومبنى البرلمان. وبدأت تتحدث بلهجة استفزازية عن قلقها على مستقبل الديمقراطية في تركيا.
محاولة الانقلاب الفاشلة أعقبتها عملية تطهير واسعة تستهدف أعضاء الكيان الموازي، التنظيم السري لجماعة غولن، وتم عزل عدد كبير من القضاة والأكاديميين والمدرسين والموظفين العسكريين والمدنيين، بالإضافة إلى موجة اعتقالات طالت ضباطا متورطين في محاولة الانقلاب. وبدأت الأطراف المناوئة لرئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان تتهمه باستغلال محاولة الانقلاب لتصفية خصومه، بل ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك، وزعم أن محاولة الانقلاب نفسها مجرد تمثيلية تم عرضها تمهيدا لعملية التصفية هذه.
القول بأن محاولة الانقلاب ما هي إلا مسرحية لا يصدِّقه عاقل في ظل هذا الكم الكبير من الأحداث والتطورات واستنكار هذه المحاولة من قبل المؤيدين للحكومة والمعارضين لها، ولكن السؤال عن اتهام أردوغان بتصفية الحسابات يبقى بحاجة إلى جواب وتوضيح.
جماعة غولن التي يتزعمها فتح الله غولن المقيم في مزرعة بولاية بنسلفانيا الأمريكية تسعى جاهدة منذ أكثر من أربعين سنة إلى التغلغل في أجهزة الدولة. وكانت هذه الحقيقة معروفة لدى الجميع ولكنها اعتبرت محاولة لإنهاء سيطرة الأقلية العلمانية المتطرفة على تلك الأجهزة من قبل جماعة دينية لصالح أبناء الشعب التركي، الأمر الذي دفع عموم المواطنين للتعاطف مع هذه المساعي.
كانت النظرة العامة إلى الجماعة إيجابية إلى حد كبير باعتبارها جماعة دينية تميزت بأنشطتها الاجتماعية والتعليمية ورفعها شعار التسامح، ولكن هذه النظرة بدأت تتغير بعد أن أعلنت الحرب ضد الإرادة الشعبية إثر أزمة نشبت بين الحكومة والجماعة، وأصبح ينظر إليها على أنها كيان سري مشبوه ذو صلة بأجندات قوى دولية وإقليمية يتآمر على الإرادة الشعبية بدعم خارجي مستغلا نفوذه في الأمن والقضاء والإعلام.
محاولة الانقلاب الفاشلة غيَّرت النظرة إلى جماعة غولن مرة أخرى. وبعد مقتل أكثر من 250 مواطنا على يد الانقلابيين المنتمين لها لم تعد الجماعة جماعة دينية واجتماعية ولا خصما سياسيا يستغل تغلغله في أجهزة الدولة لصالحه، بل أصبحت منظمة إرهابية مسلحة قتلت خلال ساعات هذا العدد الكبير من المدنيين والعسكريين ورجال الأمن، وقصفت مبنى البرلمان والمقر الرئيسي لجهاز الاستخبارات ومقر قوات المهام الخاصة، وحاولت اغتيال رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء. وبالتالي، لا غرابة في عزل المنتمين إلى هذه المنظمة من مناصبهم حتى لا يستغلوها لخدمة المنظمة.
المتورطون في محاولة الانقلاب العسكري يعتقلون، وستتم محاكمتهم في أقرب وقت ممكن، وبقية أعضاء التنظيم يتم إبعادهم عن أجهزة الدولة نظرا لطبيعة أنشطة جماعة غولن، لأن الاعتقاد السائد في المجتمع التركي أن هؤلاء لن يستسلموا، بل سيواصلون العمل للانتقام والنيل من الحكومة بأي وسيلة.
مكافحة الكيان الموازي وعملية تطهير أجهزة الدولة من خلاياه لم تبدأ بعد محاولة الانقلاب، بل هي مستمرة منذ أن أعلنت جماعة غولن حربا شاملة ضد الحكومة المنتخبة في نهاية 2013. وكانت هناك أصوات تدعو الحكومة التركية إلى الإسراع في تطهير أجهزة الدولة من خلايا الكيان الموازي قبل فوات الأوان. كما أن الاستعدادات كانت تجري على قدم وساق لعزل عدد من الضباط الموالين لجماعة غولن أو إحالتهم إلى التقاعد في اجتماع مجلس الشورى العسكري الأعلى في شهر آب/أغسطس.
لا يتوقع أن تؤدي موجة الاعتقالات والعزل إلى غضب شعبي، نظرا لاستغلال جماعة غولن نفوذها طوال أربعة عقود للتغلغل في أجهزة الدولة، لدرجة أنها تآمرت على عدد كبير من الموظفين لإبعادهم عن مناصبهم حتى يتولاها آخرون ينتمون إليها، بل وصل بها الأمر إلى سرقة أسئلة الامتحانات لدخول الجامعات والمدارس العسكرية والتوظيف وتسريبها إلى أعضاء الجماعة لتمكينهم من التغلغل في شريان الدولة ومفاصلها. ولذلك، يستبعد أن يتعاطف الشارع التركي مع هؤلاء المتورطين في محاولة الانقلاب بشكل مباشر أو غير مباشر.