كتاب عربي 21

فبذلك فليفرحوا (4): على هامش انقلاب الثالث من يوليو..

1300x600
الديكتاتور، كلاكيت مرة رابعة.. 

وكانت جمهورية بامبوزيا مثالا يحتذى به في تداول السلطة خصوصا بعد "موقعة الصينية المجيدة" (إطلاق رصاص على الرئيس من مسدس كان مخبأ داخل صينية الشاي) التي بعدها تولى الرئيس شنن الجيوش قيادة الشعب البامبوزي البطل. ونعمت بامبوزيا بالأمن والاستقرار بفضل قراراته الحكيمة وأهمها منع أي حد من الدخول عليه وهو شايل "صينية". وصار شنن على نهج القادة العظماء المصلحين (على الحائط نستعرض صورا لهتلر وموسوليني).

للدين مكانة محورية في حياة المجتمعات مهما بلغت درجة انفتاحها على العصر ومتطلباته، كما للثقافة والتعليم دور محوري في تنشئة الأجيال وفي تفعيل ملكة اليقظة والنقد لدى الشعوب. لأجل ذلك تحاول كل الأنظمة الديكتاتورية بسط سيطرتها ورؤيتها الأحادية لطريقة تدبير تلك المجالات وأولها تولية من لا يفقهون في أمورها ليصبحوا الآمرين والناهين بل المنفذين الأمينين لسياستها مع الاحتفاظ بقرار التضحية بهم وقت الحاجة "امتثالا" لرغبة الجماهير.

في مصر ما بعد الانقلاب صار الشأن الديني يعالج من داخل بلاتوهات الفضائيات على أيدي مجموعة من "الدعاة الجدد" المشككين في كثير من الثوابث وأمهات الكتب التي تربت عليها المجتمعات الإسلامية لمئات السنين، والكلمة المفتاح: تجديد الخطاب الديني.

هي كلمة ممططة تتسع وتضيق حسب حاجة وأهواء السلطة الانقلابية. فكان أن رأينا كيف تحولت برامج تلفزيونية لمنصات ينفث عبرها أصحابها الشكوك فيما ثبت لدى العامة، ويحورون الآيات والأحاديث خدمة لأجندة الحاكم المستبد الذي تحول لدى بعض من "المشايخ الأزهريين" وغير الأزهريين إلى نبي جديد" وحام للإسلام من الدنس "الإخواني". فكما كان للإسلام رب يحميه فقد يسر له القدر "سيسيا" يحميه من بعده، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وأول سبل الحماية، بعد الدعوة للتجديد وتنقية العقيدة من الشوائب التي التصقت بها عبر السنين، فرض الرقابة على الفكر والإبداع بدعوى ازدراء الأديان والإغارة على مكارم الأخلاق، والانقلاب كان الراعي الرسمي لكل تلك الانحرافات على أرض الواقع تنظيرا وتطبيقا.

مواطن ومخبر وحرامي، 2001 للمخرج داوود عبد السيد.

سليم وفتحي وشريف المرجوشي مجتمعون ببيت الأخير بعد أن توسط فتحي لعقد لقاء صلح لحل مشكلة سرقة رواية سليم وإخفائها لدى شريف.

سليم مواطن، وفتحي مخبر والمرجوشي حرامي.

المخبر: ده المعلم شريف المرجوشي، يعني الشهامة، يعني الرجولة، يعني الجدعنة ايلي على حق.هو شكله يخوف شوية بس قلبه قلب طفل رضيع. مثقف. من كثر حبه للقراية مسمينه في المنطقة شريف ثقافة. شايف الكتب ايلي عنده قد إيه يا بيه؟

على مقربة من الثلاثة نار تلتهم أوراقا.

المواطن: إنما انت ليه بتحرق الكتب يا معلم؟

الحرامي: ده كتب وحشة، كتب بطالة، يعني كتب مفيهاش أخلاق وبتبوظ أخلاق ايلي بيقراها. يعني بمعنى أصح كتب فيها كفر تستاهل حرقها. ده أول هام. ثاني هام بقه ادينا بنستفيد منها، بنطبخ عليها، بنعمل عليها شاي. يعني زي مبيقولو رب ضارة نافعة. أهم حاجة يا بيه الضمير والإخلاص والإيمان.

المخبر: الله أكبر، الله أكبر. يسلم فمك يا معلم. والله لو كان كل واحد عمل زيك كده كان زمان حال المسلمين انصلح. مش كده ولا ايه يا بيه؟ بقه بينقط درر.. درر.

السادة البهوات "المواطنون" صاروا أحرص على السلطة في تنفيذ أحكام الإعدام على الكتب "الكافرة" ولو اشتملت على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لمجرد أن الزعيم المجدد للدين اعتبرها خارج الإجماع على فرعونيته ومصدر خطر على نظامه الانقلابي. وفي المدارس المعدة للتنشئة بدأت أولى بشائر حرق الكتب في العهد السيساوي على مرأى ومسمع التلاميذ والمربين.

والهدف في الأول والآخر كان إسكات الأصوات المعارضة بدعوى المس بالدين تحت تصفيقات وتأييد المواطنين بالنظر إلى ما تمثله العقيدة، برغم كل الانحرافات التي تشوب ممارستها، من مكانة لدى عامة الناس. وبين الفينة والأخرى كان لزاما التضحية ببعض رموز التجديد السيساوي بعد أن صدقوا الكذبة وخرجوا عن النص تجاوزا وغلوا أفضى إلى عكس ما رغبت السلطة الانقلابية من زرعه بذرة بذرة في عقول الناس.

ولم يكن لزلة اللسان التي اقتطعت من خطاب ليلة قدر، خلدت نهارا لدواعي أمنية أو لمصادفتها لذكرى "أعز" لدى السيسي وحوارييه ممثلة في الثلاثين من يونيو، ذكرى ثورة إسقاط "الشرعية" وممثلها، حيث أعلن الرئيس "المؤمن" و"حامي الإسلام" أنه ظل لسنوات تائها بين الشك واليقين حتى استقر، بعد قراءات وتمحيص، على دينه الذي ارتضاه دون أن يفصح عن ماهية ذلك الدين، أن تحرك لدى "المؤمنين" حمية الدفاع عن معتقدهم الذي ارتضوه منهاجا. 

فقهاء السلطان الجدد كانوا السباقين إلى الحديث عن طريق الشك حتى اليقين في خطبهم وبرامجهم الرمضانية ليمهدوا الطريق لرئيسهم، أو ربما كان الرئيس ذاك من تأثر ببعض ما جاء في تلك الحلقات وهو الذي يقضي ساعات يومه وليله في مشاهدة البرامج وطلب مداخلات هاتفية عبرها للحديث عن لا شيء وعن كل شيء.

ولأن الفكر الانقلابي الشمولي يفترض تكريس الرؤية الواحدة لكل مناحي الحياة والدين على رأسها، فقد ارتأى النظام توحيد خطبة الجمعة مكتوبة من مدواة وزارة الأوقاف لتتحول إلى مجرد امتداد لبرامج التوك شو، المعددة لإنجازات المرحلة السيساوية الزاهرة، بدل أن تكون مناسبة للحديث عن أحوال الأمة في الداخل وفي المحيط الإقليمي.

الشتا ايلي فات، 2013 للمخرج إبراهيم البطوط.

بعد انتظار طويل للقاء ضابط مباحث أمن الدولة، حيث منعه الحارس من مغادرة غرفة الانتظار، يتبول الشيخ "ميدو" في ملابسه بعد أن كانت الأوامر طوال مدة "حبسه" بالغرفة على لسان أحد الأعوان: الباشا بيقولك اشرب.. 

وفي مكتبه، كان ضابط أمن الدولة يراقب المشهد لحظة بلحظة ليقرر الخروج إلى حيث الشيخ محرج من آثار البول على سرواله وهو الواعظ الطاهر ذو المكانة لدى مجالسيه ومستمعيه.

الضابط: مش عايزك تسخن على نفسك ثاني ولا تسخن حد معاك في الخطبة. تنسى موضوع غزة ده خالص يا شيخ ميدو. 

الشيخ: رسالتك وصلت يا باشا. أنا آسف! 

وكسبت الجوقة صوتا جديدا أو على الأقل استبعدت صوتا "نشازا" لا يدندن على لحن تسلم الأيادي..
هي الأوامر ذاتها تتكرر بعد "ثورة" الثلاثين من يونيو وما أعقبها من انقلاب على الرئيس المنتخب. لكن الفجور في القول والفعل صارا أقوى، والبحث عن "السلام الدفيء" مع إسرائيل منتهى الطموح والأمل، ولم يعد منع الخطب حول غزة هدفا بعد أن صار الحصار من الجانب المصري أفظع من ممارسات الاحتلال. وصار  قصف المساجد في الاستعراضات العسكرية بسيناء تحت نظر وعين الرئيس، بل تحت تصفيقات الحضور وإشادة الصحف ووسائل الإعلام الموالية مدعة للزهو والافتخار. لم تعد عقيدة المواطن هي الهدف بل هي عقيدة الجندي الحامل للسلاح مستهدفة أملا في أن يوجه ذلك السلاح ضد أماكن العبادة وبيوت الله.

في الماضي، كانت الكنائس تستهدف لتكريس التفرقة الدينية ونشر الفتنة الطائفية. واليوم، وبعد أن صارت الكنيسة الراعي الديني لنظام الانقلاب، لا بد من توجيه نيران المدفعية إلى المساجد حيث يختبئ الإرهابيون والمسلحون. العالم يريدها هكذا والسيسي وجنده في خدمة الأجندة الدولية والمقابل التغاضي عن جرائمه ضد المواطنين.

وبعد الإغارة على الدين والتربية يأتي الدور على إفساد الذوق العام وتكريس مبدأ المنصب مقابل الولاء الأعمى لولي النعمة والتسبيح بحمده ليل نهار...

يتبع.....