أنهيتُ قبل نحو شهرين عقداً لمدة سنة لتدريب بعض طواقم التقديم والتحرير التلفزيوني في قناة تي ري تي TRT arabic، النسخة العربية في شبكة الإذاعة والتلفزة التركية الرسمية، التي كانت محطةً هامة في سيناريو الانقلاب الفاشل مؤخراً. وقد تسنى لي خلال هذه السنة الاطلاع على جانب من واقع الإعلام الرسمي في تركيا لِأَخرجَ بالانطباعات التالية...
أولا: إن كتلةً كبيرة من موظّفي القنوات المختلفة الناطقة بالتركية في الشبكة الرسمية هم من مناصري حزب الشعب الجمهوري الذي شكّل عمقَ مؤسسات الدولة لسنواتٍ طويلةٍ ماضية، ويعارض هؤلاء حزبَ العدالة والتنمية بشدة، ويعتبرون أن الرئيس رجب طيب أردوغان هو مشروع مناقض تماماً لفكر مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك، ويعبّرون عن ذلك علناً داخل أروقة الشبكة الإعلامية.
ثانيا: إن الموظفين داخل الشبكة المنتمين للحركة القومية التركية هم الأكثر وضوحاً ومجاهرةً في انتمائهم وأفكارهم رغم أنهم أقلية داخل التلفزيون، وهم يناصبون العداء بالدرجة الأولى للقوميين الأكراد وأي نزعةٍ قوميةٍ انفصاليةٍ أخرى داخل تركيا، وتتركز خصومتهم بالدرجة الثانية على شخص الرئيس أردوغان، رغم تعايشهم مع محازبيه انطلاقاً من أخوّة العرق التركي وضرورة توحيد الصوت والبندقية في مواجهة إرهاب حزب العمال الكردستاني.
ثالثا: لا يجاهر أي كردي داخل الشبكة بأي نزعة قومية، فيما يُعتبر الأكراد المتديّنون كتلةً وفيةً لأردوغان وحزبه الذي يُعتبر الناقل الحقيقي للبيئة الكردية إلى درجة المواطَنة الكاملة من خلال التشريعات والتطبيقات العملية.
رابعا: الموظفون الذين يدينون بالولاء لرئيس جماعة الخدمة فتح الله غولن من الصعب تقدير عددهم وحجم نفوذهم داخل شبكة التلفزة لأن طبيعة عمل تنظيمهم تتسم بالسرية ويعتمدون إلى حدٍ ما مبدأ "التقية" المستمد من فِقه الأقليات الدينية، حتى الذين يُعرَفون بانتمائهم لهذه الجماعة المحظورة فإنهم في غاية الغموض والعُزلة الطوعية، مع أنهم الأكثر تهذيباً والتزاماً بالعمل بين زملائهم.
خامسا: إن تيّار أردوغان داخل الشبكة هو أوسع من إطار محازبي العدالة والتنمية، ويَنظر هذا التيار إلى دوره على أنه أمّ الصبي في تركيا ويجتهد على تقديم نفسه كطرفٍ استيعابي وجامع لسائر الأطراف مع حرصه على إظهار احترامه لتراث أتاتورك السياسي لأن افتعال نزاعٍ مع الجمهوريين والقوميين حول هذا التراث ليس مُجدياً وليس مطلوباً، خصوصاً وأن هذا التيار رغم ميله لمناصرة قضايا الأمة الإسلامية في العالم إلا أنه فخور بقوميته التركية في مرحلتَيها العثمانية والجمهورية ويعتبر أنه أرسى دعائم المرحلة الثالثة "الأردوغانية". ويستند التيار الحاكم إلى جملة من الإنجازات السياسية والتنموية الكبرى في البلاد لمحاججة خصوم أردوغان.
سادساً: تتعاطى إدارة شبكة TRT مع جميع القنوات الناطقة بالتركية والقناة الناطقة بالكردية بنفس استيعابي لسائر ألوان الطيف السياسي مع وضعها خطوطاً حمراء يتصدّرها حظر تمدّد "الكيان الموازي" أي جماعة فتح الله غولن المحظورة والمكافحة الإعلامية لخطر التهديد الإرهابي الذي يمثله كل من حزب العمال الكردستاني وتنظيم داعش. فيما تُوجّه الإدارة القناتين الإنجليزية والعربية بما يتوافق مع السياسة الخارجية للحكومة، علماً أن هناك من يطرح ضمّ هاتين القناتين إلى وصاية وزارة الخارجية باعتبار هذه الأخيرة الأقدر على إيصال رسالة تركيا إلى العالمين الغربي والعربي.
سابعا: يغلب على المجتمع التركي احترام الدين حتى من قِبل غير الملتزمين بكامل التعاليم الإسلامية، ويظهر ذلك بوضوح في شبكة TRT ظهر الجمعة حيث يتوجه معظم الموظفين إلى المساجد القريبة من مركز الشبكة في ULUS, ISTANBUL لأداء صلاة الجمعة. ولا يوجد داخل القنوات مشايخ أو ناشطون إسلاميون على الطريقة العربية وذلك عائد إلى طبيعة الروح الصوفية التي تغلب على نمط التديُّن في تركيا.
ثامناً: إن أفراد الشرطة الذين يتولّون حماية مباني الشبكة هم أقرب إلى المدنية من الشخصية العسكرية، ويجيدون احترام الآخرين برغم حزمهم في تطبيق القوانين.
تاسعا: رغم أن معظم المواقع الإدارية داخل شبكة التلفزة التركية يحتلها رجال، إلا أن المرأة تكاد تكون أقوى من الرجل لجهة التأثير في القرارات الإعلامية والإدارية، وذلك عائد إلى تراث من مشاركة المرأة في المجتمع التركي لم يطرأ عليه أي تغيير في كنف حكم حزب العدالة والتنمية.
عاشرا: لا تتردد داخل الشبكة، ولو من باب الثرثرة والشائعات، أية اتهامات تُوجّه لإعلاميٍ داخل TRT بعلاقةٍ له مع العسكر والمخابرات، كما هو الحال في إعلامنا الرسمي العربي المكتظ بمئات "الضباط" الصحافيين، ما يؤكد التزام تركيا بإجماع أحزابها الأساسية على فصل العسكر عن السياسة والإعلام.
سَنةٌ في تركيا شكلت فرصةً للتعرف على شعب طيب في أخلاقه مجتهد في أعماله ومبالغ في احترام القوانين، لكن السَّنة كانت كافيةً أيضاً للتيقّن من ضرورة تخفيف العرب حِملَهم عن الآخرين. للأتراك مشاكلهم الكثيرة داخلياً وخارجياً وهم يجتهدون في التخفيف منها، وللعرب نكباتُهم التي لا ينوب عنهم أحد في إيجاد المخارج منها. لا ينبغي أن تُحوّل المعارَضات العربية اسطنبول إلى عاصمةٍ لإحراجاتِها ومسرحٍ لمؤتمراتها ومنصةٍ لإعلامها حتى لا تتحوّل هذه المعارضات، وقد تحوّلت، إلى مادةٍ خلافية في الحوار الوطني التركي العام... ولا أحد يمكنه أن يتجاوز حقيقةَ أنه في لحظة من ليلة سوداء قبل أسبوعين، كاد أن يتحول اللاجئون السياسيون العرب في "تركيا أردوغان" إلى مطلوبين للاعتقال والترحيل في "تركيا المقلوبة" لو اكتمل الانقلاب.