ها هي بعثة صندوق النقد الدولي تعود إلى القاهرة مجددا بعد حالة من العداء المصطنع مع الصندوق زرعته نخبة 30 يونيو، كأحد أسلحتها ضد الرئيس المدني المنتخب الدكتور محمد
مرسي الذي اتهمته تلك النخبة بأنه يلجأ لصندوق النقد ليزيد حجم الديون على مصر وعلى أجيالها المقبلة.
ابتلعت تلك النخبة ألسنتها مع عودة بعثة الصندوق إلى مصر بناء على طلب سلطة الانقلاب للتفاوض حول قرض بقيمة 12 مليار دولار من الصندوق على مدى ثلاث سنوات، بهدف إنقاذ الوضع الاقتصادي المتردي الذي تسببت به تلك السلطة بسياساتها الفاشلة والعاجزة.
كان الاقتراض من الصندوق أيام مرسي محرما دينيا، فهل ننسى فتاوى الشيخ محمد حسان بتحريم ذلك القرض باعتباره ربا، وكان محرما سياسيا بمواقف وتصريحات قادة ورموز جبهة الإنقاذ وكل القوى المعارضة للرئيس محمد مرسي، رغم أن حكومة الرئيس مرسي لم تكن تستهدف القرض في ذاته (4.8 مليار جنيه)، كما هو الحال مع السلطة الحالية، بل استهدفت الحصول على شهادة من الصندوق بقدرة الاقتصاد المصري على السداد، وبالتالي منح الثقة للمستثمرين الأجانب لضخ استثماراتهم في مصر.
الفارق الجوهري الآخر بين تلك المفاوضات ونظيرتها الحالية هو أن الأولى كانت بطلب من الصندوق نفسه وبحماس بالغ منه بعد ثورة 25 يناير التي أبهرت العالم، أما المفاوضات الحالية فهي بإلحاح من سلطة الانقلاب وبعد أن وسطت وسطاء دوليين كبارا لإقناع الصندوق ببدء التفاوض لإعطاء رسالة إيجابية للأسواق بأن هناك حالة رضا دولي عنها تسمح للاستثمارات الأجنبية بالقدوم وإخراج الاقتصاد المصري من مأزقه.
سبحان مغير الأحوال، فوسائل الإعلام التي عارضت بشدة المفاوضات مع صندوق النقد أيام الرئيس مرسي، ونعتتها بكل نقيصة، هي ذاتها التي انتظمت في حملة تسويق كبرى للمفاوضات الحالية، وهي التي تقوم بغسيل أدمغة المواطنين مما حشته فيها من قبل، وتنقل تصريحات وردية لبعض المسؤولين بأن قرض الصندوق الجديد وقيمته 12 مليار دولار لن يزيد الديون الخارجية على مصر بل سيخفضها (أحمد كوجك نائب وزير المالية -اليوم السابع -30 يوليو 2016)!!
لمن لا يعلم، فإنها تبلغ جملة الدين العام المصري الداخلي والخارجي وفقا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء 283.3 مليار دولار (تجاوزت الديون الخارجية حاجز الخمسين مليار دولار، يكفي أن نذكر أن منها 25 مليار دولار قروضا خليجية و25 مليار دولار قرضا روسيا بخلاف القروض الواردة من دول ومؤسسات أخرى، بينما ارتفع الدين الداخلي للبلاد وفقا لبيانات "المركزي للإحصاء" بنحو 18%، ليصل إلى 238 مليار دولار بنهاية السنة المالية في 30 حزيران/ يونيو الماضي، وبذلك يتخطى الدين العام المصري إجمالي الناتج المحلي الذي بلغ العام المالي الماضي 272 مليار دولار بنسبة 104%، أي أن مصر تستدين أكثر مما تنتج، بينما بلغت نسبة الديون المصرية إلى إجمالي الناتج المحلي ما نسبته 89.5% في العام 2012 إبان حكم الرئيس محمد مرسي.
ووفقا لأرقام وزارة المالية المصرية، فقد نمت فوائد الديون خلال أول عشرة أشهر من السنة المالية الماضية بأكثر من 20% متجاوزة الـ31 مليار دولار، أي ضعف قيمة أجور نحو 5.5 ملايين عامل مصري.
بدأت بعثة الصندوق برئاسة كريس غارفيس مباحثاتها مع المسؤولين الماليين، وسط "طنطنة" الإعلام المصري بأن البعثة لن تفرض شروطا للصندوق على مصر، وهذا صحيح من الناحية الشكلية، ذلك أن سياسة الصندوق في العقود الماضية كانت تقوم على وصفة مالية ونقدية جاهزة تفرضها على أي دولة راغبة في الاقتراض، وكانت تلك الوصفة معروفة، وتشمل إلغاء الدعم عن السلع، وتعويم العملة، وفرض المزيد من الضرائب، وبيع شركات القطاع العام، ولكن تلك السياسات الفجة تسببت في توترات اجتماعية كبيرة، وأسهمت في الإطاحة بحكومات كانت صديقة للغرب، فعدل الصندوق سياساته شكليا، مع الإبقاء على جوهر الوصفة، حيث إن بعثات الصندوق حاليا تستمع إلى رؤى وتصورات الحكومات المختلفة لطريقة معالجة الخلل الهيكلي في اقتصاداتها وعجوزاتها المالية، وكيفية رد القرض في الآجال المحددة والتي لن تخرج عن وصفة الصندوق، فإن اقتنعت بجدية تلك الرؤى والسياسات وافقت على القرض، وهو ما ينطبق على الحالة المصرية وهو ما لن تستطيع سلطة
السيسي تقديمه، لسبب بسيط هو أن الخلل الاقتصادي هو خلل هيكلي فعلا، فالاستثمارات تتراجع وكذا عوائد قناة السويس وتحويلات المصريين من الخارج، وغالبية خطوط الإنتاج في المصانع متوقفة نتيجة نقص السيولة، ونتيجة الكساد التجاري، والسياحة شبه متوقفة، وكل ذلك نتيجة الأوضاع السياسية والأمنية المتدهورة التي تسبب فيها الانقلاب العسكري، وحتى تخرج مصر من تلك الحالة الصعبة فلا بديل سوى عودة العسكر لثكناتهم وعودة المسار الديمقراطي واحترام إرادة الشعب، لأن الحياة الديمقراطية الحقيقية تطمئن الاستثمارات، وتحميها، عبر سيادة القانون والشفافية والمساءلة.
غالب الظن أن ما يحدث من انهيارات متتالية للجنيه المصري حاليا يتم برضا السلطة لأنه يلبي أحد متطلبات صندوق النقد لإتمام القرض، وحتى إذا كانت السلطة قد تدخلت للجم هذه الانهيارات فذلك فقط لضبط الإيقاع وتهدئة الرأي العام، لكن المؤكد أن هذه الانهيارات ستتواصل لأسباب موضوعية، إضافة إلى هذا السبب الجديد الخاص بمفاوضات الصندوق، وعلى المصريين أن ينتظروا خلال الفترة المقبلة المزيد من الضرائب الجديدة التي كان باكورتها ضريبة القيمة المضافة، وعليهم أن يتهيأوا لبيع المزيد من أصول القطاع العام المملوكة للشعب للمستثمرين الأجانب، وتقليص الرواتب الحكومية، وخفض كبير للدعم على المحروقات والطاقة والخدمات العامة.
لقد كانت مفاوضات نظام الرئيس الأسبق أنور السادات مع صندوق النقد عام 1977 هي السبب الرئيس لخروج المظاهرات الشعبية التي وصفت بانتفاضة الخبز بينما وصفها السادات بانتفاضة الحرامية، وللتذكير فقد اندلعت تلك المظاهرات في شوارع القاهرة والعديد من المدن المصرية يومي 18 و19 يناير 1977 رفضا لمشروع ميزانية يرفع الأسعار للعديد من المواد الأساسية، قدمه الدكتور عبد المنعم القيسوني، نائب رئيس الوزراء للشؤون المالية والاقتصادية إلى مجلس الشعب وأعلن فيه إجراءات تقشفية لتخفيض العجز لتسهيل الاتفاق مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لتدبير الموارد المالية الإضافية اللازمة.
لقد نجحت انتفاضة الخبز - رغم تشويهها إعلاميا - في إجبار الحكومة على التراجع عن قراراتها، فهل سيتسبب الاتفاق الجديد مع الصندوق في ثورة شعبية جديدة؟! الأيام ستجيب.