التوانسة ليسوا مستعجلين على قدومه فقد غلبت عليهم اللامبالاة بما يصنع السياسيون وهذه إحدى النتائج الباهرة التي أثمرها عبث النخب بالثورة وطموحاتها الرومانسية. وهي مكسب للرئيس وحكومته العائلية. موسم التصييف الإجباري (مظهر استهلاكي تفاخري متفش بين كل الشرائح)، ثم موسم الاستعداد للعيد في شهر 9 في نفس زمن العودة المدرسية حيث ترتفع مؤشرات التذمر ويكتشف الغالبية الواسعة من الناس صعوبات التوفيق بين قدراتهم وطموحاتهم. لن يثوروا على الحكومة القادمة على قطار خشبي. فلدى الجميع يقين بأنها حكومة عاجزة إلا بمعجزة. وفي قاع الواقعية حيث هم يكفر العاجزون بالمعجزة ويؤثثون العجز بالتذمر. لكن رغم ذلك سنطرح أسئلة يخيل إلينا أن هذه المرحلة بهذه الحكومة ستفرضها على الواقع السياسي والاقتصادي وسيكون لها ما بعدها لكنه لن يكون معجزة يابانية ولا حتى تركية.
توقعات تحت سقف التدخل الخارجي
بعد ما تكشف لنا من ورطة أميركية في انقلاب تركيا طرح السؤال بمرارة. إذا كانت هذه خطط الأميركيين والغربيين عامة مع حليف ثقيل الوزن قضى أكثر من نصف قرن في حراسة حدود أوروبا من أغوال الشرقيْن الأدنى والأقصى فكيف ببلد في حجم
تونس لا يشكل وسكانه حيا في نيويورك؟ ودون احتقار للذات ولكن بواقعية فجة سيكون ما نتوقعه مرهونا بما لا نعلم من نوايا الأمريكيين الذين اختاروا لنا موظفا تونسيا بسفارتهم لرئاسة حكومتنا. وما قد نتوقعه سيكون أقرب إلى بناء دون اسمنت لاحم للحجر الذي يقوم به الجدار. ولكن في هامش خطط الإرادة/ الإدارة الأمريكية للمنطقة وللبلد نعتقد أن فترة حكومة الشاهد ستشهد إعادة ترتيب المشهد السياسي في تونس. ترتيبا لم يكن في سياق إفرازات الثورة بل في سياق إغلاق قوس الثورة بلا أفق دولة.
حشر اليسار في زاوية ضيقة تؤدي إلى تفتيته
اليسار التونسي بشقيه الحركي (الجبهة الشعبية ومكوناتها) والثقافي (حزب المسار وهوامشه الفرانكفونية) يفقدان دورهما الوظيفي في محاربة الإسلاميين (النهضة) فتحالف النداء (وبقايا الدساترة) وميل النهضة إلى اليمين يجعل منهما قوة في الشارع يمكن أن تربح الصناديق وتستغني عن خدمات اليسار السياسية. فإذا (لاحظ أيها القارئ أني أتحدث بلغة الشرط) توسع تحالف النداء والنهضة في مؤتمر الاتحاد (يناير 2017) فإنهما سيضعفان قوة اليسار داخل النقابة وهو ما يحرمه من أهم أداة بين يديه (النقابة) وبدونها لن تكون لديه وسيلة ضغط فالجبهة في الشارع لا تلفت انتباه أحد وخاصة لغياب من يرغب في التضييق على توجه ليبرالي مدعوم أمريكيا (انتخاب عمادة المحامين أعطت إشارة قوية بذلك) أما الشق الفرانكفوني من اليسار فسيظل مجموعة ضغط في الكواليس(بالنخبة الجامعية خاصة) ولكن يتكشف يوما بعد يوم أن مطالبه فرادنية غنائمية وقد يمنح رموزه تقاعدا مريحا في السفارات ويعودون على نهاية سياسية تشبه الموت(نموذج وزير الصحة الفاشل الذي منح سفارة تونس بباريس). والرئيس الباجي المتشرب بالتقاليد البورقيبية (والذي يشكل الحكومة عمليا) يعرف كيف يستبعد الإزعاج وهو الأعرف أن سفارات تونس ثلاجات مهنية مريحة.
اليسار التونسي بوجهه الحالي وببرنامجه ودوره الذي عاش به منذ ظهور الإسلاميين يستعد للخروج من الباب الضيق. وحدهم الذين سينقدون التجربة السابقة سيعلنون يسارا جديدا. لكنهم سينتظرون انقشاع الزعامات الحالية.
النهضة والإسلاميون عامة يدخلون الدولة ويخرجون من المجتمع
قبل حكومة الشاهد اختفى السلفيون كأنهم ملح في ماء. انتهت الخيمات الدعوية وتوقف حرق الزوايا وخرست الدعوة إلى جهاد الطواغيت. فقاعة انفجرت وعاد الكثير من محركي الخيام إلى بيع الخمر خلسة وتحول السلفيون في تونس إلى نكتة سمجة. وقد أجهزت معركة بن قردان على كل أمل لهم في البقاء ضمن المشهد التونسي. أما النهضة فقد تغيرت كثيرا عما عرفها الناس به منذ تأسيسها سنة 1981.
لم يخف الحزب طموحاته إلى المدنية وممارسة السلطة وقد حظي بتفويض شعبي جعله الأقوى على الساحة لكنه في مساره إلى الحكم يبتعد عن حاضنته الشعبية المفقرة. ويغرق في خدمة رأس المال ويغض الطرف عن الفساد ويداهن أعمدته مؤجلا المعارك الحقيقية إلى حين. كان الحزب يستعمل حجة الرفض الدولي لحكم الإسلاميين بل لوجودهم ووجد في الانقلاب المصري حجة. وقد زاده الانقلاب التركي حجة أخرى. فلم ير الحاضنة الشعبية تحضن حكومتها ودولتها ورئيسها لكنه رأى التأثير الأمريكي على مجريات الوقائع فبرر المزيد من الارتهان إلى النظام القديم الذي يقوده الباجي بمسميات حديثة.وستكون مشاركته في حكومة الشاهد مذلة وتزيد في قطع الأمل من التعويل عليه لاحقا.
يبدو أن الحزب قد استبطن المنهج البورقيبي في التغيير الفوقي (فيزع بالسلطان الذي لم يفز به بعد بما لا يزع بالقرآن الذي فرق فيه بين إدارة شؤون الدنيا وشؤون الدين) وتقديرنا أن الحزب يتجه إلى البقاء في المشهد دون حاضنته الشعبية المفقرة والتي فقدت أملها في حزب شعبي قوي وفعال. سيبقى حزب النهضة حيا لكنه حزب أقلي مهدد دوما بالتقلص إلى حزب نخبة (من المتسلقين الجدد) ولن أتحدث هنا عن احتمالات الانقسام الداخلي حتى ينتهي دور الشيخ المؤسس الذي يؤجل الانفجار.
حتى اللحظة تعتبر النهضة نفسها جزء من السلطة على أمل أن تكون جزءا من الدولة لكنها لن تكون لاحقا جزءا فعالا من المجتمع. وخطاب تحقير الشعب مزدهر على صفحاتها. لقد اختارت النهضة أن تكون حزب سلطة في حدود الترسيم الأمريكي لدور أحزاب مماثلة. وسيحملها الشاهد (الباجي) إلى حيث يريد. وقد سبق لي تحت تأثير بهرج المؤتمر العاشر أن رأيتها أقوى من ذلك لكن الوقائع تصحح للمتواضع غيه.
الطيف الليبرالي مستعد للخدمة
توجد في المشهد فلول النظام القديم الذي ينيخ بكلكله على الإدارة ومفاصل الحكم ولم يفرط بعد. يظهر الآن فاقدا للملامح ومشتتا بين من ننعتهم بالدساترة والنداء أو حزب الإدارة المخلص لرواتبه والمستعد دوما للخدمة. يظهر الآن كالميّت لكنه يعود فجأة في الصندوق الانتخابي ليؤبد الوضع القائم ويقدم خدماته لمن في السلطة ولو رهن البلد لمؤسسات الإقراض الدولي.
هو عصب الإدارة التونسية غير الأيديولوجي وهو الحزب الأثقل وزنا. حزب محافظ بالقوة ولا يؤمن بالتغيير ففي كل تغيير يشعر بفقدان مكاسبه. رغم الجعجعة عن التطوير والتحديث. من يملك حزب الإدارة يحكم البلد وقد تجلى هذا قبل حكومة الصيد عندما انغلق في وجه حكومة النهضة ولذلك لن تتسرب إليه النهضة في غفلة (كما تحاول أن تفعل الآن) ولن يثور من داخله فدروس القانون التي تلقاها دروس ميتة من عهد اوجيست كونت وتلميذه بورقيبة. هذا الجسم الهلامي غير ذي الملامح هو نقطة ارتكاز الحكم ولكنه أيضا نقطة جموده وسبب مواته. فهو حاضنة الفساد والعبث بالقانون.وهو يعيش بالفساد أكثر مما يعيش بالإصلاح وهو الذي أفرز اللوبيات المتحكمة الآن في المشهد.
إنه حزب الإدارة الجامد. والذي لم تخلخله الثورة ولا النخب بل جمد كل شيء من أجل أن يستمر الوضع على ما هو عليه. كل رؤوسه تجمعية أو تكاد فازت بمناصبها يوم كان الولاء لبن علي مقدم على الولاء للبلاد ثم استنزف الثورة بإضرابات وحشية واسترق لرواتبه كل المخزون المالي (هذا اللوبي يصبح ثوريا فجأة عندما يتعلق الامر بمكاسبه لكنه يرفض كل تغيير في كل مجال يمكن أن يهدد مصالح أفراده) فلو غير هذا اللوبي الإداري غير المرئي قواعد الالتحاق بكليات الطب مثلا لانصلح حال الصحة في تونس. لو خضع لمقتضيات الدستور في ما يتعلق بالحكم المحلي لفقد سلطته ولنشأت سلطة أخرى منتجة للقيمة والنخب وللتنمية المحلية. لكنه حينها سيكون قد أمضى شهادة وفاته وقبره.
هنا سيعجز الشاهد بحكومته وسيعجز خلفه ولن يكون هناك تغيير إلا نحو المزيد من الارتهان للخارج. إذن أين سيكون التغيير الذي أشرت إليه أعلاه ؟
التفقير المنهجي يؤدي إلى الموت أو الثورة
هذه حكومة تفقير. ليس لديها خيارات حقيقية ولو بتمويل أمريكي جزيل. الثروة الفاسدة ستتجمع بسرعة بيد كمشة من الانتهازيين والفقر ستتسع رقعته. لذلك فالاحتمالان متساويان لكن أحدهما يمكن رؤيته أما الثاني فعاصفة لا يعلم أحد سبب انفجارها. ونذرها تتجمع لكنها غير مرئية من قبل الشاهد ومن يسارع إلى الدخول في حكومته.
الرد الجاهز على احتمال الثورة/ الفوضى من قبل الأحزاب بما فيها النهضة الصاعدة من الأوساط المفقرة هو أن هذا الشعب جاهل وجبان وخائن لنفسه. ولكن هذا الكلام قيل عن الشعب نفسه قبل تفجير الثورة واستعادته التبريرية ليست مقنعة حتى لأصحابه جميعهم في وضع استباق الانفجار الاجتماعي وهنا سيكون التغيير.
حكومة الشاهد ستكون وبرغم ما يعلق عليها الكسالى من أمل هي حكومة غلق قوس الثورة واستعادة النظام القديم لدوره المحلي كوسيط تجاري يبيع سلعة لا يصنعها ولا يملكها. وليس لديها خيارات عبقرية لأنها لا تضع في برنامجها مطالب الثورة بل مطالب الثورة المضادة.
إنها برغمها حكومة تهيئة الانفجار الكبير الذي سيفتح على الفوضى لآن الأحزاب والنخب لن تكون قائدا بل ستكون أهدافا والفوضى ستسوق الجميع إلى وضع الدولة الفاشلة حث يكون لعصابة مهربين من القوة ما لم يجمعه أحد بين يديه. فما من عصابة تهريب إلا ولها حماتها في الأمن والجيش والقضاء (كما كانت تركيا قبل اردوغان).
ثم يكون حديث آخر لن يشهده الذين دافعوا مثلي عن الانتقال الديمقراطي وعيونهم على رواتبهم وسيقضي الله أمرا كان مفعولا. تونس تحت حكومة الشاهد وهو مدى منظور ستتغير لكن نحو الأسوأ ومن الحكمة عدم بيع الناس أوهاما عن جنة يبنيها خبير في زراعة الفقوس.