موقف طريف قديم حدث لي مع أحد أساتذتي، كنت في ضيافته، وانتهى وقتي، فأراد أن يصرفني، فقال لي "تفضل"، وكان أمامي بعض الفستق والتسالي، فمددت يدي وأخذت مما أمامي، فكرر الكلمة "تفضل"، فبدأت بالأكل، فقالها مرة ثالثة بصوت أعلى "تفضل"، فقلت له "أخذت ما يكفيني"، فاضطر أن يقول لي "اتفضل امشي"!
* * *
بمثل هذا الشكل يقع في حياتنا السياسية الكثير من المواقف، هي في الحقيقة "سوء تفاهم"، وكل طرف له وجهته، ويتحدث بمصطلحاته، وبنيته ومقصده.
على سبيل المثال ... يحاول إعلام النظام الانقلابي في مصر أن يروج أكاذيب عن معارضيه، من أهمها أنهم يقبضون بالدولار واليورو من تركيا وقطر وإسرائيل وأمريكا وإيران ومن أي دولة يحل عليها غضب السادة الضباط في أجهزة الأمن والمخابرات.
ثم يشاء ربك أن يفضحهم بالوزير اللص المدعو "خالد حنفي"، ذلك الذي جاء لمنصب كان فيه وزير من أشرف أهل مصر، الوزير "باسم عودة" فك الله أسره، لقد ضبط ذلك الوزير ينفق ملايين الجنيهات من أموال فقراء المصريين على نفسه وحاشيته في فندق من الفنادق الفاخرة في القاهرة.
استقال الوزير الذي ضبط متلبسا بالسرقة، وظهرت الدولة وكأنها تحارب الفساد، والحقيقة أن هناك سوء تفاهم في الموضوع ... خلاصته أن الوزير لم يدفع ثمن فساده، بل دفع ثمن انكشاف فساده.
* * *
سوء تفاهم آخر حدث مع السيد رئيس جمهورية الأمر الواقع، حين تحدث عن "شرف المقاتل"، ظن كثيرون أن الخطأ في كلمة المقاتل، ذلك أن "سيسي" ليس مقاتلا، فهو عسكري لم يسبق له أن قاتل أبدا، وتحدث عشرات الكتاب والمعلقين عن هذا المقاتل الذي لم يقاتل من قبل!
والحقيقة أن "سيسي" يتحدث عن تعريفه الشخصي (هو وأمثاله) للمقاتل، المقاتل في نظر "سيسي" مرادف لكلمة "القاتل" لدينا !
إنه يتحدث عن شرف "القاتل" ... لا شرف "المقاتل" !
حديث "سيسي" من قاتل ... لقاتل آخر ... يجهز نفسه لجريمة قتل جديدة ... قاتل يعطي قاتلا (جديدا) درسا في "الشرف"!
سوء تفاهم !
* * *
تسريبات في إعلام الانقلاب تتحدث عن الإفراج عن بعض المعتقلين السياسيين، ثم جاءت الأخبار الحقيقية بالإفراج عن "جنائيين" عددهم 126 يستحقون العفو بمناسبة الاحتفال بالعيد 63 لثورة 23 يوليو.
هناك سوء تفاهم كبير في هذا الموضوع ... السياسيون الذين نتحدث عنهم سجناء في نظرنا وفي نظر أهاليهم وفي نظر من يعترف بحقوق الإنسان، لهم حقوق، ويحاكمون في قضايا، ويترافع عنهم محامون، ويمثلون في جلسات أمام قضاة .. وإلى آخر ذلك.. أما عند العصابة التي تحكم مصر في عهد "سيسي" ... فهم رهائن، والرهينة تحتجز بلا حقوق، وتستخدم في سائر أنواع المساومات، ولا سبيل لتحرير الرهينة إلا بأن يحررها أحد بالقوة، أو بدفع الفدية المستحقة.
* * *
قررت محكمة جنايات شبرا الخيمة، اليوم، قبول الاستئناف المقدم من الناشط الحقوقي والمحامي مالك عدلي، وإخلاء سبيله بضمان محل إقامته على خلفية التحقيقات التي تجري معه لاتهامه بالتحريض على التظاهر وقلب نظام الحكم، احتجاجاً على ترسيم الحدود بين جزيرتي تيران وصنافير.
حين قبلت المحكمة الاستئناف ... استأنفت النيابة!
كيف تستأنف النيابة قرارا هو أصلا مستأنف؟
بسيطة.. هناك سوء تفاهم.. هذه شكليات.. فلا هذه نيابة، ولا تلك محكمة، ولا هذا استئناف ... نحن أمام تشكيل عصابي، يقرر قوانين اللعبة في التو واللحظة كما تشاء شهوات الانتقام والتشهير والقتل والاعتقال.
* * *
"سيسي" يقول في لقائه الصحفي مع السادة رؤساء تحرير المواخير الصحفية:
"تعيين الحدود البحرية يعطي فرصة للبحث عن الثروات في المياه الاقتصادية"، البعض ظن أنه يتحدث عن الثروات المصرية من أجل المصريين ... سوء التفاهم حدث أيضا في هذه الجملة ... فهو يتحدث عن اكتشاف ثروات مصرية لإهدائها لأسياده الصهاينة، وترسيم الحدود سيساعده من أجل الحصول على العمولات للعصابة ... لا أكثر.
* * *
قال لي من أعرفه (وهو سيساوي أصيل) إن اتفاق النظام المصري مع صندوق النقد الدولي يصب في صالح مصر، وحين ناقشته محاولا إظهار الآثار الكارثية لهذا الاتفاق ... أصر على موقفه، ولكي يُبَسِّطَ الموقف لعقلي محدود الإمكانات قال لي إن اتفاق مصر مع صندوق النقد الدولي يشبه صلح الحديبية الذي عقده الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم مع قريش !
قلت له.. كلامك صحيح.. ولكن هناك سوء تفاهم.. اتفاقنا مع صندوق النقد يشبه صلح الحديبية تماما.. ولكن نحن الكفار !!!
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين...
عبدالرحمن يوسف
موقع إلكتروني : www.arahman.net
بريد إلكتروني : arahman@arahman.net