جعل ابن خلدون عددا من الظواهر دالة على الفساد مثل كثرة الجباية، وزيادة معدلات البطالة، والقصور في قيام الدولة بوظائفها الخمس (حفظ الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال) على أساس أنها وظائف أساسية لمعاش الأفراد والنهوض بنوعية حياتهم، والاعتداء على الناس في أموالهم ودمائهم وأسرارهم، وظاهرة الهَرج، وزيادة الفقر والترف، ظواهر سلبية وخبيثة، لا تأتي فرادى ولكنها تأتي مع بعضها بعضا.
ابن خلدون يقدم رؤية شبكية للفساد، لا يمكن بأي حال فصل الفساد عن محاضنه وأسبابه والشروط المعنوية والأخلاقية التي تمكن له، فضلاً عن بنية الاستبداد التي تكون مرتعًا خصبًا لعمليات الفساد والإفساد؛ ومن هنا فإن ابن خلدون أبرز عناصر خمسة غاية في الأهمية تشكل في واقع الأمر كشفا للغطاء عن الحالة الانقلابية التي جعلت من الجباية أحد أهم استراتيجياتها في إرساء حالة الإفقار في بر
مصر، فساد الحالة الجبائية، من أهم العناصر في هذا المقام إذ يتعرض ابن خلدون لهذا الأمر في فصلين مهمين، أحدهما في الجباية وسبب قلتها وكثرتها، والآخر في ضرب المكوس أواخر الدولة.
فحال الجباية تتعلق بحالة الترف وتمويله الذي لا يأتي إلا على الفقراء محابيا ومجاملا الأغنياء ممن لهم صلة بأهل الدولة في خدمة سلطانهم وترفهم على حساب عموم الناس من بسطاء وفقراء، فمن العجيب حقا أنهم يطالبون الفقراء بمزيد من التقشف والتحمل، إلا أن حالة ترفهم تكذبهم وفي مفارقة عجيبة تعنى بزيادة جبايتهم دون أدنى تنازل عن مستوى ترفهم الفادح والفاضح، وهو أمر يفسر خطاب التقشف بلا نهاية للفقراء والبسطاء وفعل البذخ والترف الفاجر الذي تمثل في السجادة الحمراء وطائرات الرئاسة الفارهة والمرفهة ووزير يقيم في فندق بتكلفة عالية.
سلوكيات تنكشف تسفر عن عمليات استفزاز للفقراء لينطلق حال لسانهم لماذا نحن فقط من يرزح تحت نير جبايتهم، ولماذا نحن فقط من يتحمل أو يتقشف حالة من الاستخفاف ضمن عقلية الترف تذكرنا بمقولة كاشفة "أتقتير هنا وإسراف هناك"؟ ومعنى يدين هذه الازدواجية الرهيبة والمريبة "بئر معطلة وقصر مشيد"، إنها مقولة ابن خلدون الذهبية "قاعدة من تخلف أهل الدولة بخلق التحذلق وتكثرت عوائدهم وحوائجهم بسبب ما انغمسوا فيه من النعيم والترف فيكثرون الوظائف والوزائع ويزيدون في كل وظيفة ووزيعة مقدارًا عظيمًا لتكثر لهم الجباية ويضعون المكوس على المبايعات، ثم تندرج الزيادات فيها بمقدار بعد مقدار لتدرج عوائد الدولة في الترف وكثرة الحاجات".
ماذا تفعل إذا كثرت الجباية في سياق الجباية بهدف الجباية، "فإن كثرة الجباية تثقل المغارم على الرعايا وتهضمهم وتصير عادة مفروضة لأن تلك الزيادة تدرجت قليلاً ولم يشعر أحد من زادها على التعيين ولا من هو واضعها، إنما تثبت على الرعايا كأنها عادة مفروضة ثم تزيد إلى الخروج عن حد الاعتدال فتذهب غبطة الرعايا في الاعتمار لذهاب الأمل من نفوسهم لقلة النفع، إذا قابل بين نفعه ومغارمه، وبين ثمرته وفائدته فتنقبض كثير من الأيدي عن الاعتمار جملة، فتنقص جملة الجباية حينئذ". فمن حيث أرادوا زيادة الجباية قلت، وزادت من مصانع الغضب، بل وفتحت الطريق لمزيد من البطالة وعدم الاهتمام بالنشاط والفاعلية والعمل وفتحت الطريق لبطالة حقيقية وعطالة مقنعة.
وماذا يمكن أن تفعل هذه السياسة الجبائية الملعونة، يذكر ابن خلدون ذلك في مقام محاولة السلطان تعويض النقص في جبايته، فيعمد حيناً إلى فرض المكوس على مبيعات التجار للرعايا وعلى الأسواق، أو بزيادة المكوس إذا كانت قد استحدثت من قبل، أو بمقاسمة العمال والجباة، وامتكاك (أي امتصاص) عظامهم طبقاً لعبارة ابن خلدون، وأخيراً يعمد السلطان إلى ممارسة التجارة والزراعة، وهو ما لا يجمل به، ولا يستقيم معه رخاء الدولة ومصالح الرعية"، ويدين ابن خلدون هذا السلوك من قِبَل الحاكم ويُقبِّحه، ويقرر أنَّه "غلط عظيم وإدخال الضرر على الرعايا من وجوه متعددة".
أما النتيجة الكارثية لذلك السلوك وتلك السياسات الجبائية التي اتخذت للأسف الشديد كاستراتيجية، "فلا تزال الجملة في نقص ومقدار الوزائع والوظائف في زيادة لما يعتقدونه من جبر الجملة بها، إلى أن ينتقض العمران بذهاب الآمال من الاعتمار ويعود وبال ذلك على الدولة"، ينتقض العمران وتذهب الآمال ويكون الوبال على الناس وعلى الدولة، كارثة محققة ومصائب تترى. الانقلاب وبما أنه يستخف بكل شيء قد لا يهمه الخراب الآتي إلا أن يمول فساده وظلمه.
وتتكاثر الجبايات لأسباب أخرى، فالأموال التي تغطي "الحامية"، لاحظ هذا اللفظ الخطير، حامية السلطة التي تطالب برشوتها للاستمرار في عمليات الحماية (الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية والقضاء المستخدم والإعلام الفاجر القائم على صناعات الإفك التي لا تنقطع، تعرفون أنه لابد لنا من أذرع إعلامية وكل ذراع لا تتصورا كم يتكلف)، قالها السيسي بملء فيه ليتحدث عن تكاليف بعض هذه الأذرع الحامية، لا بد أن تكون فـ"حينما يكثر خراج السلطان خصوصًا كثرة بالغة بنفقته في خاصته وكثر عطائه ولا تفي بذلك الجباية فتحتاج الدولة إلى زيادة في الجباية لما تحتاج إليه الحامية من العطاء والسلطان من النفقة، ثم يزيد الخراج والحاجات والتدريج في عوائد الترف وفي العطاء للحامية ويدرك الدولة الهرم.. فتكسد الأسواق لفساد الآمال ويؤذن ذلك باختلال العمران ويعود على الدولة، ولا يزال ذلك يتزايد إلى أن تضحمل.
هذا فيما يتعلق بمقاييس وافتراضات الحالة الجبائية، وتصور ذلك في عصرنا يمكن أن يترجم إلى مجموعة من المؤشرات التي ترتبط بالسياسة المالية للدولة وسياسات الضرائب والجمارك وأشكال التهرب الضريبي وأشكال الفساد والرشوة التي تتعلق بمثل هذه الجوانب المالية. هذه المؤشرات تمثل حزمة ضمن منظومة مؤشرات الفساد في هذا المقام. هذه حال الجباية الانقلابية برفع الأسعار وإلغاء الدعم وفرض الضرائب والرسوم والدمغات في تفنن عجيب، تحكم دوائر الظلم والفساد ظلم الفقراء لتمويل ترف الأغنياء، وتمويل حامية السلطة ورشوتهم.